في مشهد جديد من مشاهد السطو الثقافي الذي دأبت عليه السلطات الجزائرية، ظهر قصر "تافيلالت" كـ"درّة العمارة المستدامة" في الجناح الجزائري ضمن معرض "إكسبو 2025" في أوساكا باليابان. غير أن المفارقة الصادمة لا تكمن في استعراض الإنجازات البيئية أو الاحتفاء بالتراث، بل في تبنّي الجزائر لاسم ومفهوم معماري يحمل في صلبه جذورًا مغربية ضاربة في عمق التاريخ.
إنّ "تافيلالت" ليست مجرد تسمية جغرافية أو مصطلح معماري يُمكن استنساخه أو نقله ببساطة. تافيلالت، تلك الواحة التاريخية الشهيرة الواقعة جنوبي المغرب، كانت عبر العصور مهدًا للدولة العلوية وملتقىً للحضارات والتجارة والعمران. إنها منطقة تحتفظ بذاكرة مكانية وروحية مغربية لا يمكن محوها أو نسبها زيفًا إلى الجغرافيا الجزائرية.
ورغم أن قصر
"تافيلالت" في ولاية غرداية الجزائرية يُقدَّم كأنموذج للعمارة المستدامة،
فإن تسميته ليست بريئة أو عفوية، بل تُعبر عن محاولة سياسية ممنهجة لإعادة تدوير الرموز
الثقافية المغربية داخل قالب جزائري. فحين تَستخدم السلطات الجزائرية اسم "تافيلالت"
لوسم مشروع عمراني حديث، فإنها لا تفعل ذلك لأسباب فنية أو بيئية فقط، بل بهدف توطين
دلالة حضارية مغربية في نطاق جغرافي آخر، ومحو الأصل المغربي من الذاكرة الثقافية المشتركة.
تتباهى الجزائر اليوم
في اليابان بقصر تافيلالت، وتمنحه طابعًا دوليًا بيئيًا، وتستعرض جوائزه التي نالها
من النرويج إلى الأمم المتحدة، لكنها تتغافل تمامًا عن التناقض الصارخ الذي يطرحه تبني
هذا الاسم المغربي الأصيل، دون أي إشارة إلى ارتباطه التاريخي والجغرافي بالمملكة المغربية.
ولعلّ المفارقة تتضح
أكثر حين نقرأ تصريحات المسؤول الجزائري أحمد نوح، الذي وصف القصر بأنه "تجربة
متجذّرة في الهوية المحلية"، وهو تصريح لا يخلو من سخرية سوداء، لأن الجذر الثقافي
للتسمية ذاتها يعود إلى المغرب، لا إلى "الهوية المحلية" التي يتم الحديث
عنها. فهل الهوية المحلية تُنتج أسماءً من خارج جغرافيتها؟ أم أن هناك عملية
"تزوير ناعم" تمارسها السلطات تحت غطاء التنمية المستدامة؟
لقد سبق للسلطات الجزائرية
أن سطت على عناصر متعددة من التراث المغربي، من الكسكس إلى القفطان، ومن الزليج إلى
الموسيقى الأندلسية، واليوم تُضيف إلى قائمتها "قصر تافيلالت"، في محاولة
جديدة للتشويش على الخصوصية المغربية، وتغذية سردياتها الخاصة على حساب الحقائق التاريخية
والجغرافية.
هذا السلوك ليس مجرد
خطأ بريء في التسمية، بل يدخل في إطار "الحرب الثقافية الصامتة" التي تشنّها
الجزائر على المغرب، حيث تعمل على ترويج تراث مستورد من الجار الغربي وكأنه جزء من
نسيجها الوطني، في محاولة لصناعة هوية مشوشة ومبنية على استعارة الرموز بدل إنتاجها.
إنّ المشاركة الجزائرية
في المحافل الدولية ليست محل إشكال في حد ذاتها، لكن استخدامها الملتوي لرموز مغربية
يعكس فقرًا في الابتكار وسلوكًا استعماريا عكسيًا في تمثيل الذات. فالبلدان التي تحترم
تراثها لا تحتاج إلى استعارة أسماء أو مفاهيم من جيرانها لتبدو "أصيلة" أمام
العالم. والمفارقة أن السلطات الجزائرية، التي لا تتوانى عن توجيه الانتقادات للمغرب
في كل محفل، تجد نفسها مضطرة لاستعارة رموزه الحضارية لتُجمّل بها واجهتها الخارجية.
إن الواجب يقتضي من
الهيئات الثقافية المغربية، ومنظمات التراث، والباحثين في الثقافة المعمارية الصحراوية،
أن يردّوا بقوة على هذا النوع من التزييف الرمزي. فالتراث ليس مَعرضًا للتبضع الثقافي،
بل هو هوية وطنية وأمانة تاريخية لا تقبل المساومة.
إن "قصر تافيلالت"
الحقيقي، ليس في غرداية ولا في صفحات الجوائز الدولية التي تستعرضها الجزائر، بل في
الجنوب المغربي العميق، في الواحة التي أنجبت السلاطين، وفي العمارة الطينية التي حملت
بصمات الحضارة المغربية عبر قرون. أما في غرداية، فهناك بالتأكيد قلاع ومعمار محلي
يستحق التقدير، لكن دون الحاجة إلى سطوٍ ثقافي على أسماء ليست لها.
بالتالي، فإن هذا الاستعراض
الجزائري، الذي يغلف السطو باسم "الاستدامة"، ليس إلا حلقة أخرى من مسلسل
طويل يهدف إلى تقويض رمزية التراث المغربي في الوعي الدولي، وطمس الحدود بين الأصل
والمنتحل، بين الجذور والظلال.
0 التعليقات:
إرسال تعليق