ليس الغطاء النباتي في جنوب المغرب مجرد مشهد طبيعي أو معطى بيئي جامد، بل هو سجل جيولوجي وبيولوجي وثقافي حي، يعكس تفاعل الإنسان مع محيطه عبر قرون. في كتابه المرجعي "الغطاء النباتي في جنوب المغرب"، يقدم الباحث الفرنسي بيير-ماري ديلماس دراسة دقيقة وشاملة لهذا الغطاء، كاشفًا عن تعقيداته الجغرافية، وأبعاده الإيكولوجية، وسياقاته التاريخية.
يستند ديلماس في هذا العمل إلى منهج ميداني صارم، حيث يجمع بين المسح النباتي، والقياسات البيئية، والتحليل الجغرافي، ليصوغ أطروحة علمية ثرية تُعد من أبرز ما كُتب في هذا المجال عن الجنوب المغربي، خاصة عن منطقتي سوس ودرعة، وصحراء ما قبل الأطلس الكبير.
ما يلفت النظر منذ الصفحات الأولى هو أن المؤلف لا يتعامل مع النبات ككائن بيولوجي فقط، بل ككائن ثقافي أيضًا. فاختياره للمصطلحات ينبع من رغبة واضحة في الربط بين الطبيعة والمعيش اليومي للإنسان المحلي، بين الشجيرات والأعشاب والنخيل، وبين أنماط الترحال والرعي والزراعة التقليدية. فهو لا يرى في الغطاء النباتي مجرد مظهر من مظاهر التنوع البيولوجي، بل كيانًا ذا بعد اقتصادي، وهوياتي، بل وحتى روحي في بعض الأحيان.
تشريح بيئي لمناطق الهامش
ينقسم الكتاب إلى عدة فصول، تُعنى كل منها بمنطقة إيكولوجية أو نمط نباتي معين. يتوقف ديلماس مطولًا عند منطقة السهل السوسي، ليبرز التفاوت النباتي فيها بين المناطق الجافة والشبه رطبة، ويصف بتفصيل كبير انتشار نباتات مثل الأركان والصبار والدوم. كما يتناول في فصل آخر مناطق الواحات، محللاً العلاقة بين نخيل التمر والأنظمة الزراعية القديمة مثل "الخطارات" و"الفسقيات".
تتميز هذه الدراسة بتسليطها الضوء على النباتات المستوطنة التي لا تنمو إلا في هذه البقعة من الأرض، مثل أنواع معينة من الحلفاء والشيح والسدر. وهو يشير إلى أن هذه النباتات ليست فقط عناصر طبيعية بل "شهود صامتة على تحولات مناخية وسكانية عميقة".
بين التغير المناخي والأنشطة البشرية
من أبرز ما يناقشه ديلماس في كتابه هو أثر الأنشطة البشرية على تنوع الغطاء النباتي. فهو لا يتردد في الإشارة إلى الأضرار الناتجة عن الرعي الجائر، الزحف العمراني، والتحولات الفلاحية الحديثة، خاصة بعد انتشار الزراعات التصديرية في سوس. كما يتوقف عند ظاهرة التصحر، مبرزًا دور التغير المناخي، لكنه يشدد أيضًا على المسؤولية البشرية في تدهور النظم البيئية.
يستند في تحليله إلى بيانات دقيقة، تشمل معدلات الأمطار، درجات الحرارة، وتحولات التربة، ويدمج ذلك مع شهادات السكان المحليين وخبراء الزراعة. إنه منهج متعدد الحقول، يزاوج بين الإيكولوجيا والأنثروبولوجيا والجغرافيا الطبيعية.
البعد المعرفي والاستعماري الضمني
مع ذلك، لا يمكن تجاهل الطابع الكولونيالي الضمني لبعض فصول الكتاب. فعلى الرغم من دقته العلمية، تنبع مقاربة ديلماس من موقع خارجي، حيث يُنظر إلى الجنوب المغربي من منظور مراقب أوروبي. فتكرار استخدامه لمفاهيم مثل "المجتمعات التقليدية" أو "أنظمة بدائية" يشي بانفصال معرفي عن دينامية التطور الداخلي للمجتمع المحلي. إلا أن هذا لا يلغي القيمة العلمية للكتاب، بل يدعو القارئ المغربي والعربي إلى قراءته بوعي نقدي، واعتباره قاعدة معرفية تُبنى عليها أبحاث أكثر ارتباطًا بالواقع المحلي من الداخل.
أهمية الكتاب في السياق المغربي
تنبع أهمية هذا الكتاب من كونه أحد المراجع النادرة التي تُعنى بشكل منهجي بالنبات في الجنوب المغربي، بعيدًا عن الطابع الفولكلوري أو السياحي. كما يشكل مادة أولية ثمينة لطلاب الجغرافيا، علم النبات، والبيئة، بل وحتى للمهتمين بالتنمية المستدامة والمجتمع المدني.
وبالنظر إلى التحديات البيئية الراهنة في المغرب، مثل الجفاف، ندرة الموارد المائية، وفقدان التنوع البيولوجي، يصبح الكتاب بمثابة تحذير علمي من مغبة تجاهل العلاقة بين الإنسان والطبيعة. وهو ما يتقاطع مع ما جاء في تقرير الأمم المتحدة الأخير حول "انهيار التنوع البيولوجي العالمي"، والذي يُصنف شمال إفريقيا كمنطقة معرضة لخطر فقدان الأنواع النادرة بشكل متسارع.
نحو قراءة مغربية موازية
رغم مرور عقود على صدور الكتاب، ما زالت الحاجة قائمة إلى قراءات موازية من باحثين مغاربة تعيد تأويل المعطيات النباتية ضمن سياقات اجتماعية وثقافية محلية. فكما كتب الجغرافي المغربي محمد الناجي، فإن "المعرفة البيئية لا تكتمل إلا بإدماج الذاكرة الجماعية وموروث الاستعمالات التقليدية". وهذا بالضبط ما يمكن أن يشكل امتدادًا نقديًا وإبداعيًا لعمل ديلماس.
خاتمة
كتاب الغطاء النباتي في جنوب المغرب لبيير-ماري ديلماس ليس مجرد أطروحة أكاديمية، بل مرآة علمية وطبيعية تعكس وجه الجنوب المغربي، بتنوعه وتعقيده وهشاشته. وبين سطور النص، يتسلل نداء خفي: إن حماية الغطاء النباتي ليست فقط مسألة بيئية، بل هي دفاع عن الذاكرة، وعن الحق في المستقبل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق