الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يوليو 16، 2025

كيف تكتب الآلة شعراً في زمن البرمجة: عبده حقي


في لحظة من السكون التكنولوجي، وجدتني أتأمل شاشة سوداء ينسكب فيها الكود كأنه نهر من الحروف المتشابكة. لم يكن ذلك مجرد تأمل عبثي في لغة البرمجة، بل كان وقوفاً طويلاً عند مفترق طرق بين الشعر والآلة، بين الجمال والبرمجيات. سؤال واحد ظل يتردد بداخلي: هل تستطيع الخوارزميات أن تكتب شعراً؟ ليس تقليداً لما نكتبه نحن البشر، بل شعراً له نَفَسُه الخاص وإيقاعُه المستقل؟

الشعر، كما فهمناه من امرئ القيس إلى بول إيلوار، لم يكن مجرد كلمات موزونة، بل تمردٌا لغويّا على حدود اللغة ذاتها. لكن ماذا يحدث حين تدخل الآلة هذا المجال المحفوف بالعاطفة، والرمزية، والإيحاء؟ أيمكن لشفرة كود بارد أن تنسج صورة شعرية عن خريف داخلي أو عن امرأةٍ تمرُّ كنسمةٍ في زمن الرماد؟

لقد طُرِح هذا السؤال مبكراً في الأوساط الأكاديمية. في كتابه

«The Language of New Media»، يرى ليف مانوفيتش أن البرمجة باتت لغة الفن الجديد، وأن الشاعر قد لا يحمل قلماً بل يفتح محرر شيفرات. فالمبدع اليوم، في هذا السياق، لم يعد فقط من يملك ناصية اللغة، بل من يطوّع الخوارزميات لخلق الجمال.

هذا التحول ليس وليد الصدفة. منذ أن أطلقت OpenAI نماذج لغوية قادرة على توليد نصوص شعرية، ومنها GPT، أصبحنا أمام واقع جديد: قصائد تكتبها خوارزميات تفهم البنية الإيقاعية، وتلتقط الاستعارات، وتراعي توازن الصورة مع المعنى. ربما لم تصل بعد إلى روح المتنبي، لكنها تستلهم، تعيد التوليف، وتبتكر. لقد رأيت بعيني نموذجاً يكتب عن الغياب كأنه شاعر مغمور في مقهى مغربي، يتأمل الكأس نصف الفارغ.

لكن هل يكفي كل ذلك لنقول إن الآلة تُبدع؟ هنا يتداخل الشعري مع الفلسفي. أفلاطون في "الجمهورية" ميز بين الصانع والمبدع، بين من يُقلد ومن يخلق من لا شيء. فهل الآلة تخلق، أم أنها تُعيد تشكيل ما قرأته من ملايين القصائد البشرية؟ وهل نقلد نحن أيضاً، نحن الذين نكتب قصيدة تلو الأخرى متأثرين بما قرأناه وعشناه وسمعناه؟

في الواقع، المعضلة تتجاوز الشعر ذاته، وتمس جوهر الإبداع. في محاضرة شهيرة، شبّه رولان بارت النص بالشبكة التي لا مركز لها، وقال إن "الكاتب لم يعد أباً للنص، بل هو ساعي بريد في مكتب تعبيري كبير". هذه الفكرة تزداد وجاهة في زمن الذكاء الاصطناعي، حيث النص يولد من تفاعلات خوارزمية بين بيانات، لا من روح شاعر متألم في العتمة.

ومع ذلك، لا يسعني إلا أن أندهش أمام بعض ما تنتجه هذه النماذج. قرأت نصاً بعنوان  The Cloud Remembers " السحابة تتذكر " كتبه برنامج شعري توليدي، وشعرت للحظة أنني أقرأ نصاً لجاك كيرواك في لحظة صفاء. ربما لا يدرك البرنامج معنى الغيمة، لكنه يرتب مفرداتها بكيفية تجعل المعنى ينفلت من اللغة ويتسرب إلى وجدان القارئ.

لكن المخاوف صارت تتزايد أيضاً. هل سنفقد "الحس الإنساني" في النصوص الشعرية؟ هل سيختفي دور الشاعر كما اختفى الكُتّاب في عصر الطباعة؟ أليست الكتابة نفسها، كما قال بول فاليري، مجرد صنعة يمكن تعلمها وإتقانها، ما دامت العاطفة لا تهم إلا من يكتب وليس من يقرأ؟

ما يقلقني ليس أن تكتب الآلة شعراً، بل أن تُبهرنا فنُقصي الشاعر الحقيقي. أن نقبل القصيدة الجيدة دون أن نسأل من كتبها، ولماذا. هذا الانبهار الجديد قد يحوّل الشعر إلى سلعة خوارزمية تُقاس بالكفاءة لا بالجمال، وبالسرعة لا بالتأمل.

ومع كل ذلك، لا أرفض هذا المستقبل، بل أطمح إلى فهمه، تقبله، وتجاوزه. أن نجعل من الذكاء الاصطناعي شريكاً في الإبداع لا بديلاً عنه. أن نُدرّب الخوارزميات على نبض القلب، لا على عدد المقاطع الشعرية فقط. أن نستفيد من برمجيات مثل «PoemPortraits» و»Deep-speare»، التي أنتجت نصوصاً شعرية تقترب من روح شكسبير، دون أن نتنازل عن السؤال الأبدي: لماذا نكتب؟

أكتب اليوم لا لأنني أخشى الذكاء الاصطناعي، بل لأنني أؤمن أن الشعر هو مقاومة مستمرة للجمود، سواء أتى من بيروقراطية اللغة أو من برودة الكود. والجميل أن الخوارزميات، رغم دقتها، قد تقع في أخطاء لغوية أو رمزية، تجعلنا نبتسم ونتذكر أن الشعر، في نهاية المطاف، هو انحراف جميل عن القاعدة، لا تطبيق صارم لها.

ربما سيأتي يوم نقرأ فيه ديواناً كاملاً مكتوباً بيد الذكاء الاصطناعي، وربما سنُدرّس يوماً "مدرسة السيليكون الشعري"، لكن ما دمت قادراً على الكتابة من عصب الحلم، فلن أكتفي بقراءة ما تكتبه الشيفرة. سأظل أكتب، لا لأثبت أنني أفضل من الآلة، بل لأتذكر أنني ما زلت إنساناً.

0 التعليقات: