تشهد الساحة السياسية الجزائرية في الآونة الأخيرة سلسلة من التطورات المقلقة، تكشف عن حالة من التوتر والتفكك داخل هرم السلطة، تتجلى في اعتقالات مفاجئة، وتصريحات متناقضة، وحالات صحية حرجة تهز الرأي العام الوطني والدولي. هذه المستجدات، التي تتقاطع فيها ملفات السياسة، والجيش، والقضاء، تفتح الباب أمام تساؤلات حارقة حول مصير النظام الحاكم، واستمرارية تماسكه الداخلي.
في هذا السياق، أثارت
الأنباء المتعلقة بالحالة الصحية الحرجة لرئيسة كونفدرالية أرباب العمل الجزائريين،
سعيدة نغزة، موجة من الذعر داخل أروقة سجن القليعة. فقد تدهورت حالتها بشكل لافت بعد
صدور حكم بالسجن ضدها، الأمر الذي دفع بالعديد من المتابعين إلى التساؤل: هل تسير الجزائر
نحو نهج قمعي لا يفرق بين صوت اقتصادي مستقل ومعارض سياسي؟ وهل باتت التهم جاهزة لتصفية
الحسابات داخل الطبقة المتنفذة؟
سعيدة نغزة، التي لطالما
اعتُبرت من الأصوات النسائية الجريئة في الجزائر، لم تكن فقط تمثل القطاع الخاص، بل
كانت أيضًا منخرطة في نقاشات حيوية بشأن مستقبل الاقتصاد الوطني في ظل هيمنة الدولة
وفساد المؤسسات. اعتقالها وسط هذه الظروف الصحية المتدهورة لا يُقرأ بمعزل عن السياق
العام الذي تشهده البلاد، بل يُنظر إليه كمؤشر إضافي على تضييق الخناق على كل من يجرؤ
على قول كلمة "لا" أو الخروج عن الصف.
لكن القضية لا تتوقف
عند نغزة فقط. فقبلها تم اعتقال ناصر الدين جين، المسؤول الأمني السابق، في إطار ما
تصفه السلطات بـ"حملة تطهير". واليوم تتجه الأنظار نحو الجنرال أولحاج، أحد
الوجوه البارزة في المؤسسة العسكرية، والذي تشير مصادر متطابقة إلى احتمال تقديمه للمحاكمة
في الأيام المقبلة. هذه الاعتقالات المتسارعة توحي بأن "سيف المحاسبة" لم
يعد موجهاً فقط ضد خصوم النظام المدنيين، بل امتد ليطال حتى رجالات العسكر، ما يعكس
تصدعاً داخل صفوف النخبة الحاكمة نفسها.
وتتقاطع هذه التطورات
مع تسريبات إعلامية قديمة أعيد تداولها مؤخرًا، يظهر فيها وزير الخارجية الحالي، أحمد
عطاف، وهو يصف الرئيس عبد المجيد تبون بـ"المافيوزي"، في سياق يُظهر حجم
التنافر والتناقض داخل الطبقة السياسية. فالرجل الذي يتولى اليوم حقيبة الخارجية، ويمثل
الجزائر في المحافل الدولية، كان في وقت سابق يتهم رئيس البلاد علنًا بالفساد والانتماء
إلى منطق المافيات. كيف يمكن تفسير هذا التحول؟ هل هو نفاق سياسي أم محاولة للتموقع
داخل منظومة متقلبة لا تثق إلا بمن يثبت ولاءه الكامل؟
إن استحضار مثل هذه
التسجيلات في هذا التوقيت بالذات لا يمكن أن يكون بريئًا، بل قد يكون جزءًا من صراع
أجنحة حاد داخل السلطة، حيث يُستعمل الإعلام والتسريبات والاعتقالات كأدوات لتصفية
الحسابات، وتقليم أظافر من يُنظر إليهم كمصدر تهديد للمركز.
في خلفية هذه الأحداث،
تقف الجزائر في مفترق طرق خطير: اقتصاد هش، ونظام سياسي مرتبك، ومؤسسة عسكرية لم تعد
موحدة الصف كما كانت في السابق. أما الشارع الجزائري، الذي سبق وأن فاجأ الجميع بحراكه
السلمي عام 2019، فيتابع هذه التطورات بحذر، بين خوف من الانزلاق نحو المجهول، وأمل
خافت في أن تفتح هذه التصدعات ثغرة نحو إصلاح حقيقي.
وفي انتظار ما ستسفر
عنه الأيام المقبلة، يظل الثابت الوحيد أن الجزائر تعيش لحظة حساسة، تتطلب أكثر من
أي وقت مضى قراءة نقدية صريحة، وإرادة سياسية حقيقية، لتفكيك منطق السلطة المغلقة،
ووضع حد لعقلية الانتقام السياسي، سواء ضد الفاعلين الاقتصاديين أو العسكريين أو السياسيين.
ربما تكون قضية سعيدة
نغزة، واعتقال ناصر الدين جين، وقضية الجنرال أولحاج، مجرد فصول أولى من مسلسل أطول،
يكشف تدريجياً أن النظام الجزائري – رغم كل الشعارات – يواجه تحدياً وجودياً داخل ذاته،
وليس فقط في مواجهة خصومه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق