ما إن اقترب المركب من جزيرة غوري حتى شعرت أنني أبحر ليس نحو وجهة سياحية، بل نحو ضمير الإنسانية ذاته. كانت المياه المحيطة بالجزيرة هادئة، كأنها تخجل من أن تعكس في صفحتها مرآة ذلك التاريخ الدامي. بصفتي مواطنًا مغربيًا، كنت أحمل في قلبي شوقًا لاكتشاف السنغال، لكنني لم أكن أتهيأ للوقوف وجهاً لوجه مع بقايا الوجع الإفريقي المتجذر.
جزيرة غوري ليست مجرد موقع جغرافي، بل جرح مفتوح على الضمير الإنساني. كانت ملامح الجزيرة خادعة في جمالها الهادئ، فكأنها تخفي بين جدرانها الصغيرة صرخات الذين عبروا منها نحو المجهول، أو الذين لم يعبروا أبدًا. استقبلتنا ألوان البيوت الزاهية، لكنها لم تستطع أن تمحو لون الغبن المرسوم على أبواب "دار العبيد".
دخلت "Maison des Esclaves" بخطى مترددة. أمامي كانت بوابة صغيرة تحمل لوحة كُتب عليها: "باب اللاعودة". وقفت هناك طويلاً، لا أسمع سوى أنفاسي، ولا أرى سوى ظلال أناسٍ تم اقتلاعهم من أرضهم ومن لغاتهم ومن أحلامهم. كيف يمكن لباب صغير أن يحمل هذا الثقل الرمزي الرهيب؟ وكيف للعالم أن يستمر في الدوران بعد كل هذا القهر؟
مررت بزنزانات الرجال، ثم زنزانات النساء، فراغ قاتم، وجدران تنزُّ صمتاً ثقيلاً. قيل لنا إن العبيد كانوا يُكدّسون بالعشرات، بلا هواء، بلا ضوء، بلا كرامة. هنا كانت تُمارَس عملية تجريد الإنسان من إنسانيته بشكل منهجي، وبيعُه كما تُباع السلع. لم يكن ذلك زمنًا سحيقًا فحسب، بل مرآة مشوهة لواقع لا تزال ظلاله قائمة إلى اليوم في بعض صور الاستغلال والفقر والتمييز.
شعرت كأنني لا أمثّل نفسي وحدي، بل كأنني أمثّل شمال إفريقيا كلها، وكأن التاريخ يهمس لي بأننا لسنا بمنأى عن هذا الماضي. المغرب، بلدي، كان بدوره في لحظات معينة على تماس مع قوافل الرقيق أو في مقاومة ذلك النظام المظلم. وكان واجبًا عليّ أن أستمع، أن أتعلم، وأن أُقرَّ بما جرى، لا من موقع الإدانة فقط، بل من موقع التضامن الأخلاقي، ومن الإيمان العميق بضرورة التئام الجرح الإفريقي بروح العدالة والكرامة.
في نهاية الزيارة، جلست على صخرة تطل على المحيط الأطلسي، أتأمل ما تبقى من تلك السفن التي لم تعد، ومن تلك الأرواح التي لم يُكتب لها أن تُدفَن في أوطانها. شعرت بعاصفة وجدانية تعبرني، ممزوجة بوجع، ودهشة، وإحساس عميق بالمسؤولية. كانت لحظة صمت، لكنها أفصحت عن أشياء لم تفصح عنها الكلمات.
غادرت غوري ولم تغادرني. أصبحت جزءًا من ذاكرتي، ومن رؤيتي لإفريقيا. فهذه القارة التي حاول الاستعمار أن يمزقها ويجعلها تكره ذاتها، ما زالت تقاوم بجمالها، بثقافاتها، وبشعوبها المتعانقة رغم الجراح.
أشكر السنغال، بلد "التيرنغا" (الضيافة)، على إبقاء هذه الذاكرة حيّة. فالأمم لا ترتقي إلا إذا نظرت في مرآة ماضيها بصدق، وتصالحت معه دون إنكار أو تزييف.
أما أنا، المغربي الزائر، فقد عدت إلى بلدي وأنا أحمل على كتفي ذكرى ثقيلة، لكنها ضرورية... ذكرى تحثني أن أكتب، أن أتكلم، وأن أذكّر. لأن الصمت، في حضرة مثل هذه الذاكرة، خيانة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق