الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، يوليو 24، 2025

رحيل أمير القصبات: عفيف بناني ووصايا اللون الأخيرة


غيب الموت أحد فرسان الريشة المغربية، الفنان والكاتب التشكيلي عفيف بناني، عن عمر ناهز 82 عامًا. ومع رحيله، تنطفئ شمعة مضيئة في سماء الفن المغربي، كانت ترسم الضوء بلون القصبات وتوشح الذاكرة بجماليات الحضارة.

منذ ولادته في الرباط سنة 1943، بدا أن عفيف بناني لم يكن مجرد فرد في المدينة، بل كان نسيجًا من ألوانها. وعلى الرغم من أن انطلاقته الفنية تأخرت حتى عام 1992، إلا أن حضوره كان طاغيًا ومكتمل النضج، كما لو أنه كان يرسم داخله طيلة العقود التي سبقت. استطاع أن ينسج بين أنامله عوالم من السكينة والجمال، حملت ملامح المغرب العميق، وجعلت من لوحاته مرآة لروح البلاد، ورمزًا للتوازن الداخلي الذي تفتقده الكثير من التجارب المعاصرة.

تنقّل بناني بلوحاته بين أكثر من 65 معرضًا، داخل المغرب وخارجه، حيث طافت أعماله مدنًا وعواصم مثل باريس وبرلين وأبوظبي ومدريد وجنيف وبغداد. وكان لكل عرض قصة، ولكل لوحة قصبة، ولكل لمسة ريشة حنين.

لم يكن عفيف بناني مجرد رسام، بل كان مثقفًا حمل على عاتقه مسؤولية التوثيق والتأمل. فقد ألّف ثلاثة كتب تظل مرجعية لكل دارس للفن المغربي والعالمي، أولها "الرسم من القرن التاسع عشر إلى سنة 1945" سنة 2006، ثم "معجم الفنون التشكيلية" في 2010، وأخيرًا "تأملات تشكيلية" في 2013. في هذه المؤلفات، جمع بين حسّ الفنان وحدس المؤرخ، وبين هواجس الجمال وأسئلة الهوية.

وقد حظي الراحل بتقدير واعتراف في حياته، إذ حاز سنة 2000 على دبلوم من الفيدرالية الوطنية للثقافة الفرنسية، وفي 2004 توّج بالميدالية الأوروبية للفنون التشكيلية عن لوحته الشهيرة "قصبة تينزولين"، التي ستظل عنوانًا لفرادته وأصالته، قبل أن ينال جائزة "اللوحة الذهبية" عام 2010 عن عمله "المدرسة البوعنانية بفاس"، ثم ميدالية الأكاديمية الفرنسية للفنون والآداب والعلوم في 2013. حتى الصحافة العربية منحته لقبا ظل يرافقه كوشم فني: "أمير القصبات".

لكن حضوره لم يكن فقط على جدران المعارض، بل كان حاضرًا في مؤسسات الثقافة والعمل العام. فقد شغل منصب مدير تنظيم المعارض الدولية بمكتب التسويق والتصدير بين عامي 1982 و1999، وكان له دور بارز في التعريف بالفن المغربي على الصعيد العالمي. كما انتُخب سنة 2009 نائبًا لرئيس نقابة الأدباء والباحثين المغاربة، وتولى عام 2015 مفوضية أول مهرجان فني يقام في الرباط احتفالًا بالذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء، بالإضافة إلى إشرافه على المعرض الدولي لليوم العالمي للمرأة في السنة ذاتها.

برحيل عفيف بناني، يفقد المغرب فنانًا كان يحمل القصبة في قلبه كما يحملها على لوحاته، ويكتب اللون كما يكتب الحروف. لم يكن رسامًا فقط، بل ذاكرة حية، ومثقفًا تشكيليًا نادرًا، استطاع أن يُمَغْرِبَ الفن الحديث ويُشَرْقِنَ الجمال الأوروبي، ليصنع من كل لوحة شهادة على أن الهوية يمكن أن تكون بصرية، وأن الانتماء قد يُرسَم.

سيبقى عفيف بناني حيًا في أعماله، وفي تينزولين التي رسمها فأصبحت أيقونة، وفي كل قصبة لونها بروحه. لقد غادرنا الرجل، لكن القصبة لا تزال قائمة، تنتظر ريشة أخرى، وفنانًا آخر، يعيد إحياء ما بدأه الأمير.

0 التعليقات: