في الأيام القليلة الماضية، أثارت المقابلة التلفزيونية الأخيرة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون موجة من السخرية والتساؤلات، ليس فقط بسبب مدتها الطويلة نسبياً، بل لما حملته من مواقف وتصريحات متضاربة تستدعي وقفة تحليلية معمقة. فقد بدا الرئيس في حواره وكأنه يسرد روايتين مختلفتين عن السياسة الخارجية للجزائر: واحدة تدّعي الاحترام الدولي والتقدير، وأخرى تفصح، من دون أن يقصد، عن عزلة سياسية متنامية.
في حديثه عن القضايا
الدولية، أصرّ تبون على أن الجزائر لم تخسر شيئًا من تمسكها بمبادئها، وخصوصًا موقفها
من قضية الصحراء المغربية . بل ذهب أبعد من ذلك ليؤكد أن بلاده تحظى باحترام الولايات
المتحدة، وروسيا، والصين، وسائر القوى الدولية. لكن هذه التأكيدات، رغم صلابتها الظاهرة،
لم تصمد أمام سلسلة من التناقضات الفعلية في الواقع الدبلوماسي للبلاد.
الرئيس تحدث عن العلاقات
الجيدة مع واشنطن، لكن الواقع يُظهر غيابًا لافتًا لأي زيارة رسمية له إلى العاصمة
الأمريكية، حتى خلال الزيارات الأخيرة التي استقبلت فيها واشنطن قادة أفارقة بارزين،
مثل رئيس جنوب أفريقيا. والجدير بالملاحظة أن الرئيس السابق بوتفليقة زار واشنطن في
بداية ولايته، رغم أن الجزائر كانت خارجة للتو من حرب أهلية دامية، بينما لم تُسجل
زيارة واحدة لتبون منذ توليه المنصب، على الرغم من زعمه تحسن العلاقات.
أما العلاقة مع روسيا،
فهي بدورها محاطة بالرماد البارد. فعلى الرغم من التصريحات الودية، تغيب الجزائر عن
أبرز الفعاليات الرمزية في موسكو، كاحتفالات ذكرى الانتصار على النازية، التي شارك
فيها قادة أفارقة كُثر. كما عبّر تبون نفسه عن رفضه لتحركات روسيا في الساحل الإفريقي،
متحدثًا عن خلافات صريحة بشأن ليبيا ومالي.
وبالنسبة للصين، التي
وعدت الجزائر بمشاريع استثمارية ضخمة قاربت 40 مليار دولار، لم تُترجم الوعود إلى أي
إنجاز ملموس، بل إن مشروع ميناء الحمدانية تم تجميده، وشركات صينية انسحبت من مشاريع
كبرى. في المقابل، توجهت الاستثمارات الصينية نحو المغرب وتونس ومصر ونيجيريا، في ما
يبدو أنه تراجع استراتيجي عن الجزائر.
أما العلاقات مع العالم
العربي، فهي في أسوأ أحوالها. السعودية لم ترسل ولي عهدها إلى الجزائر رغم الدعوات
المتكررة، والعلاقات مع الإمارات باتت أقرب إلى القطيعة، بعدما كانت في السابق تزخر
بمشاريع مشتركة. كل ذلك فقط لأن الإمارات اختارت دعم موقف المغرب في ملف الصحراء، أو
لأنها رفضت الخضوع لـ"الوصاية الأخلاقية" الجزائرية في ملف التطبيع.
وفي أفريقيا، تعاني
الجزائر من قطيعة فعلية مع جيرانها الجنوبيين، النيجر ومالي وبوركينا فاسو، حيث لم
تعد هناك أي تمثيليات دبلوماسية متبادلة. وتتهم الجزائر تلك الدول بالعداء والتبعية
لقوى أجنبية، بينما يتهمها هؤلاء بالتدخل ودعم الحركات الانفصالية. المفارقة أن الجزائر
تصنّف حركات انفصالية داخل حدودها كـ"إرهابية"، بينما تطالب الآخرين بالتفاوض
مع حركات مماثلة على أراضيهم.
مع أوروبا، وتحديدًا
فرنسا وإسبانيا، القصة لا تقل تناقضًا. بعد سنوات من العلاقات المتوترة، وصلت الأمور
إلى حد سحب السفراء وتجميد العلاقات التجارية. فرنسا، التي كانت شريكًا استراتيجيًا،
فقدت سفيرها في الجزائر، ولا تزال العلاقات تراوح مكانها. أما إسبانيا، فقد أصبحت هدفًا
للشتائم والتحريض الإعلامي الجزائري بعد اعترافها بسيادة المغرب على الصحراء، ليعود
رئيس وزراء الجزائر ويطلب ود نظيره الإسباني "بإلحاح"، في مشهد كشف هشاشة
الموقف الدبلوماسي الجزائري.
الخطير في تصريحات
تبون ليس فقط الإنكار، بل محاولة تغليف العزلة بالمبادئ. لقد تحولت "القضية الصحراوية"
من موقف تضامني إلى عقيدة جامدة، جعلت من الجزائر دولة تحاكم شركاءها على أساس الولاء
لهذه العقيدة. وهكذا، لم تعد تكتفي بدعمها، بل تريد فرضها على الآخرين، متناسية أن
العلاقات الدولية تُبنى على المصالح المتبادلة لا على الإملاءات الإيديولوجية.
والسؤال الجوهري هنا:
هل يمكن لدولة أن تظل سجينة مواقفها دون أن تدفع الثمن؟ تبون يزعم أن الجزائر لم تخسر
شيئًا، لكن الوقائع تُكذّبه: تراجع في الشراكات، عزلة عن الفعاليات الدولية، تجميد
للاستثمارات، وتدهور للعلاقات مع الجيران، من المغرب إلى الساحل، ومن الخليج إلى المتوسط.
لم يعد ممكنًا الاستمرار
في إنكار الواقع. المشهد السياسي الدولي يتغيّر، والتحالفات تعاد صياغتها كل يوم. ومن
لا يواكب هذه التحولات، يُقصى. الجزائر بحاجة ماسة إلى مراجعة عميقة لسياساتها الخارجية،
لا تفرّط في مبادئها، ولكن تخلّصها من الجمود والمكابرة.
لقد آن الأوان لفك
الارتباط بين "الدبلوماسية" و"العقيدة". لأن الدعم لا يعني التقديس،
والخلاف لا يبرر القطيعة، والمواقف الأخلاقية لا تغني عن المصالح الإستراتيجية. فالدول،
مهما عظمت شعاراتها، لا تُقاس بكثرة أعدائها، بل بصلابة صداقاتها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق