في مشهد إقليمي شديد التعقيد، تجد موريتانيا نفسها في الوقت الراهن محط أنظار العالم العربي والدولي بعد أن راجت أخبار عن اقترابها من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهي خطوة أثارت جدلاً واسعاً، ليس فقط بسبب توقيتها المتزامن مع جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، بل أيضاً بسبب تداعياتها الجيوسياسية على التحالفات الإقليمية، خصوصاً مع الجزائر.
بدأت العاصفة في التاسع من يوليو 2025، عندما نظّم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لقاءً رسمياً في واشنطن جمع رؤساء خمس دول إفريقية من الحجم المتوسط، من بينها موريتانيا. اللقاء الذي بدا في ظاهره جزءاً من استراتيجية أمريكية لاحتواء النفوذ الصيني في إفريقيا، تحوّل إلى مادة دسمة للصحافة الدولية حين كشف موقع "سيمفور" الأمريكي الموثوق عن لقاء سري جمع الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش ذلك الحدث.
المعلومة، التي تأكدت
لاحقاً عبر تقارير من قناة "العربية" الإماراتية، أربكت الموقف الرسمي في
نواكشوط، ما دفع الحكومة الموريتانية، ممثلة بوزير الثقافة والاتصال حسّين ولد ودّو،
إلى نفي صريح، واعتبار التقارير الإعلامية "مفبركة" وتفتقر إلى المصداقية.
غير أن النفي لم يكن مقنعاً، خصوصاً أنه تجاهل مصدر التسريب الأساسي، وهو موقع
"سيمفور"، واكتفى بالرد على تقرير "العربية"، ما زاد من شكوك المتابعين.
أبعد من الجدل حول
حقيقة اللقاء، يبدو أن هذه الخطوة – سواء وقعت بالفعل أو لا – تحمل رسائل استراتيجية
متعددة. فهي تمثل، في حال تأكدت، ضربة موجعة للدبلوماسية الجزائرية التي استثمرت بقوة
في تعزيز نفوذها في موريتانيا خلال السنوات الأخيرة. فمنذ ديسمبر 2021، كثفت الجزائر
من مبادراتها تجاه نواكشوط، بداية بزيارات رفيعة المستوى، ومروراً بإنشاء بنك جزائري
مشترك، وانتهاءً بإطلاق مشروع ضخم لطريق بري يربط تندوف بزويرات، بطول 840 كلم، وبتكلفة
تجاوزت المليار دولار.
غير أن كل هذه الجهود،
التي بدت ظاهرياً استثماراً استراتيجياً، لم تترجم إلى شراكة اقتصادية متينة. فحجم
التبادل التجاري بين الجزائر وموريتانيا لم يتجاوز 215 مليون دولار في 2024، وهو رقم
هزيل بالمقارنة مع الاستثمارات الإماراتية، التي فاقت 2 مليار دولار خلال السنوات الخمس
الماضية، وتشمل قطاعات الزراعة، الطاقة، البنية التحتية والمياه.
المفارقة أن الجزائر،
التي دعمت موريتانيا بمشاريع ضخمة، لم تنجح في كسب ولائها السياسي الكامل، ويرجع ذلك
– كما تشير مصادر موريتانية مطلعة – إلى ما يعتبره نواكشوط ضغطاً مفرطاً من الجزائر
في محاولة لعزل موريتانيا عن المحور المغربي-الإماراتي. هذا السلوك الجزائري فُهم في
نواكشوط على أنه محاولة للتدخل في القرارات السيادية للدولة، خاصة في ما يتعلق بموقفها
من النزاع في الصحراء المغربية والعلاقات مع إسرائيل.
في المقابل، تبدو الإمارات
قد استوعبت جيداً الواقع الموريتاني، فعوضاً عن الضغوط السياسية، اختارت سياسة
"التمكين الهادئ" عبر الاستثمار الاقتصادي طويل الأمد، والشراكة في مشاريع
استراتيجية. من أبرز الأمثلة على ذلك، تمويل الإمارات لميناء نواكشوط وتخصيص 2000 هكتار
لمشروع زراعي يوفر أكثر من 1000 فرصة عمل مباشرة. إلى جانب حضور الهلال الأحمر الإماراتي
القوي في المشاريع الإنسانية والاجتماعية.
وفي أواخر 2024، زار
الرئيس الموريتاني المغرب في زيارة وصفت بالخاصة، ثم التقى لاحقاً بولي عهد أبوظبي،
محمد بن زايد، في لقاء ثلاثي جمعه بالعاهل المغربي. وهي إشارات لا تُخطئها العين في
سياق إعادة تموضع موريتانيا ضمن المحور المغربي-الإماراتي، دون أن تعلن ذلك بشكل صريح.
الجزائر، من جهتها،
بدأت تستشعر الفشل التدريجي لمحاولتها "استنساخ النموذج التونسي" مع موريتانيا.
فبينما نجحت نسبياً في جعل تونس تحت مظلتها السياسية والاقتصادية، اصطدمت في نواكشوط
بمؤسسات أكثر حذراً واستقلالية، وقيادة ترفض أن تتحول إلى تابع سياسي لأي محور.
موريتانيا، ورغم صغر
حجمها الديمغرافي (نحو 5 ملايين نسمة)، تُدير موقعها الجيوسياسي بذكاء لافت. فهي تدرك
حجم التنافس الإقليمي المحموم على أراضيها الغنية بالمعادن النادرة، مثل الليثيوم واليورانيوم،
وتدرك أيضاً أن توازنها بين المحاور المتصارعة يتيح لها تحقيق أقصى فائدة دون الانخراط
في تحالفات مكلفة.
ورغم أن نواكشوط لم
تصدر موقفاً رسمياً بشأن مستقبل علاقتها مع إسرائيل، إلا أن الإشارات المتزايدة – من
زيارات، لقاءات، وتسريبات إعلامية – توحي بأنها تدرس خياراتها بهدوء، وبما يخدم مصالحها
الاقتصادية والتنموية، وليس حسابات أيديولوجية أو ضغوطاً من الحلفاء.
الخلاصة أن ما يحدث
في موريتانيا ليس مجرد جدل عابر حول لقاء سري، بل هو مرآة لتحولات كبرى تشهدها المنطقة.
تحولات تؤكد أن النفوذ لا يُشترى بالوعود ولا يُحتكر بالشعارات، بل يُبنى على استثمارات
واقعية وشراكات تحترم استقلالية القرار الوطني. والجزائر، التي ظنت أن الطريق نحو نواكشوط
مفروشة بالهبات والاتفاقيات، اكتشفت متأخرة أن الطريق أطول وأكثر تعقيداً مما تصورته.
0 التعليقات:
إرسال تعليق