الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يوليو 16، 2025

هل كان بن رشد دكتورا !!؟ : عبده حقي

 


يقينا أنني لا أحمل لقب "دكتور"، ولا تلمع ببريقه بطاقتي، ولا تزين به يافطتي في الندوات والبرامج التلفزية . ربما كان بإمكاني أن أحظى بذلك الوسام ، كما فعل كثيرون، لو ركضت ولهثت خلف الشهادات الرسمية، وسلكت الطرق المعبدة أو الملتوية ، لكنني منذ بداياتي الشعرية أواخر السبعينات كنت مدفوعاً بهاجس آخر: العشق. عشق الكتابة، القراءة، والبحث بنفس حر خارج أسوار المؤسسات. لذلك، لم أسعَ قط لشهادة الدكتوراه أو غيرها ، ولم أعتبرها يوماً تاجا مرصعا بيواقيت الفكر أو الإبداع.

وكما هو معلوم على مدى التاريخ الإنساني، لم يكن سقراط يحمل دكتوراه في الفلسفة، ولم يكن ابن خلدون بحاجة إلى ختم جامعي ليؤسس علماً جديداً هو علم الاجتماع. والمتنبي من جهته لم يكن أستاذاً في البلاغة الأدبية، لكنه ما زال بوصلة للشعراء وسيبقى كذلك . ومحمد شكري لم يصبح روائيا عالميا بعد نيله شهادة جامعية ، بل إن علماء المسلمين الأوائل، من أمثال ابن سينا والرازي والفارابي، لم يدخلوا كليات ولا معاهد بالمعنى الحديث، ولم ينتظروا تصديقاً من لجنة علمية كي يشتغلوا بالطب والفلسفة والموسيقى. لقد ولدوا من رحم الشغف، وكانوا أبناء الزمن الذي كانت فيه قواعد العلم خُلقاً، وليست نياشين توشح بها الأكتاف.

لقد تَكوّن عدد هائل من الأدباء والمفكرين العصاميين في العالم العربي بوسائلهم الذاتية، خارج جدران الأكاديميات. جبران خليل جبران لم ينهِ تعليمه الجامعي، ومع ذلك وضع بصمته العالمية في الأدب العربي والإنجليزي. وطه حسين نفسه، الذي توشح بالدكتوراه من السوربون، لم يكن حصاده الأدبي الكبير رهيناً بتلك الورقة الرسمية، بل بتمرده على الثوابت العربية السائدة وسعيه إلى النور في زمن العتمة الجوانية.

وأنا، على مقامي المتواضع، أؤمن بأن المعرفة الحقيقية تولد من شقاء الوعي بالأسئلة الوجودية ، لا من ترف الإجابات الجاهزة في المصادر والمراجع العلمية.

ولكن، كم من المرات وجدتني في مواجهة تلك الآفة التي نخرت بنيات الحياة الثقافية: التفاخر بالشهادات. كأننا عدنا قرونا إلى مجتمع عباد الألقاب، لا عباد القيم.

كم من أشخاصٍ يحملون لقب "الدكتور" ولكنك لا تجد لهم أثراً في الفكر أو الأدب أو العلوم. يرددون نظريات الآخرين بلا روح، ويكتبون المقالات كما تُحشى بطونهم : كلام منسوخ ومكرور، بعضه ربما مسروق، وبعضه معاد تدويره. لقد صارت الشهادة عند البعض وسيلة للترقي الاجتماعي، لا أداة للمعرفة أو التحرر الفكري.

الأسئلة التي ظلت تؤرقني لم تكن بريئة: ما جدوى الدكتوراه اليوم؟ هل صارت مجرد بوابة لوظيفية إدارية في خدمة السلطة؟ وهل تُنتج الجامعات العربية أطروحات تعالج فعلاً مشاكل المجتمعات؟ أليس بعضها نسخاً مملة لمراجع غربية ، محشوة بلغة خشبية لا تسمن ولا تغني من جوع؟ بل كيف نقنع أنفسنا أن هذا النظام البحثي الأكاديمي هو الطريق الوحيد إلى الفكر، ونحن نرى أن النخب النابغة غالباً ما يتجاوزونه ويعبرون إلى النور بوسائلهم الخاصة وطموحهم العلمي الذي لا تحده حدود ؟

ثم تفجرت الفضيحة الكبرى، تلك التي تمثلت في بورصة الشهادات. الدكتوراه مقابل المال. ماستر على طبق من الشبهة أو الولاء أو الزبونية. كم من "دكتور" في كوكب الأرض اشترى لقبه من جامعات الظل أو دكاكين البحث العلمي خصوصا جنوبا في الدول المتخلفة حيث الميزانيات المخصصة للبحث العلمي أدنى من الصفر؟ كم من رسائل جامعية لم تُكتب إلا بدافع أموال الريع أو للتطبيل للأجهزة القمعية العربية في عهد حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي وغيرهم ؟ إنها خيانة مزدوجة: خيانة للعلم، وخيانة للمجتمع والتراكم العلمي الذي يُضلَّل بقيم وهمية. لقد تحوّل بعض الفضاء الأكاديمي إلى سوقٍ علمية بلا ضمير، تُشترى فيه الألقاب كما تُشترى البدلات الرسمية في ليالي الأعراس.

ومما لا شك فيه أن ما راكمته من مجاميع قصصية وروايات وقصائد، وما نشرته من مقالات نقدية، ، كل ذلك كان برغبة وحوافز يستحيل أن تمنحها لي الجامعات: دافع العشق التلقائي ومن ثدي الرضاعة الطبيعية. الحب الذي لا يعرف المساطر، ولا يعترف بالتراتبية، ولا يخضع للقياسات المزاجية.

لقد كتبت من دفء أفراحي وصقيع أتراحي، من ذخيرة ذاكرتي، من قواميسي المنهكة، من كل عتمة سكنَتْني وطلبتني أن أكتبها. وهل كانت الدكتوراه ستمنحني كل هذا النبض الصادق؟ لا أظن ذلك . ربما كانت ستكبّلني، وتحاصرني بأسوار المناهج، وتسجنني داخل قالبٍ بيروقراطي لا يتسع لقلقي الجامح.

أنا أكتب إذن أنا موجود .. وأنا أكتب لأنني لا أستطيع أن أحيا إلا بالكتابة . أقرأ لأن المعرفة عندي ليست رفاهية، بل حاجة عضوية، مثل الهواء والماء. لا أكتب لأرتقي درجات في السلم الجامعي، بل لأغوص في أعماق الإنسانية . علما أن ذلك إن كان سيشرفني فإنني لم أطلب يوماً أن أكون دكتوراً، لأن هذا اللقب لن يزيدني ذرة من العلم، ولا ينقص منِّي ذرة من الجاه . لست أقلَّ من دكتور يُلقِّن الطلبة ما لا يعيشه، ولا أكثر من قارئٍ يسرق لحظات من وقته ليحاور العالم في صمت.

أعرف أنني لن أدخل المجامع اللغوية، ولن تتباهى باسمي الجامعات. لكنني سعيد بموقعي الاعتباري هذا، مكتفيا وقانعا برصيد كتبي المؤنسة حولي في رفوف الهامش. الهامش الذي تجري فيه ساقية الحكاية. الهامش الذي لا يُرهب أحداً، ولكنه ينكأ الجراح بأسئلته. ولعلي أكرر في ختام هذا التأمل ما قاله القاص المصري الكبير يوسف إدريس ذات يوم: "لقد أردت أن أكون كاتباً عظيماً، ولم أحتاج شهادة لتأكيد ذلك". وأنا أقولها اليوم، بلا ادعاء: لست دكتوراً، لكنني كتبت ما لم يكتبه كثير من الدكاترة الأعزاء. وهل في الأمر ما يستدعي الاعتذار؟

ولعلني هنا أستحضر بتقدير كبير المقال الذي كتبه الدكتور سعيد يقطين، المفكر المغربي البارز، في مقال صدر بصحيفة القدس العربي، بتاريخ 16 فبراير 2019 بعنوان"أنا لست دكتوراً". في إطار فعاليات الدورة الـ 25 من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، خلال ندوة حول موضوع “القراءة من الورقي إلى الرقمي” التي احتضنتها قاعة ابن رشد، بمشاركة سعيد يقطين ونزهة بلخياط وعبده حقي قدمت مسيرة الجلسة الدكتورة بشرى زكاغ الكاتب عبده حقي على أنه دكتور، وعند أخذه الكلمة بين أنه ليس دكتورا، فرد عليه سعيد يقطين في حينه بأنه أكثر جدية من عدد كبير من الدكاترة!

0 التعليقات: