لم تكن محاكمة سيدة الأعمال الجزائرية «سعيدة نغزة» حدثًا عاديًا في مسار القضاء الجزائري، بل كانت مرآة مكشوفة لانهيار ما تبقى من الاستقلالية المفترضة للسلطة القضائية، وانكشاف طبيعة النظام القائم الذي لا يتردد في التنكيل بمن يجرؤ على الخروج عن الطاعة أو الإفلات من قبضة الولاء السياسي المطلق. لقد حوّل النظام الجزائري قضية هذه السيدة، التي كانت بالأمس القريب تتصدر المشهد الاقتصادي بصفتها رئيسة "الكونفدرالية العامة للمؤسسات الجزائرية"، إلى مشهد تراجيدي فاضح لعدالة الانتقام.
ففي يوم 9 يوليو
2025، تناقلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل فيديوهات صادمة من قاعة محكمة الجزائر العاصمة،
حيث أغمي على نغزة داخل القاعة بعد أن نطق القاضي بالحكم بالسجن أربع سنوات. لم يكن
هذا الإغماء تمثيلاً ولا هروبًا من العدالة، بل نتيجة مباشرة لحالة صحية حرجة كانت
تمر بها. ومع ذلك، رفض القضاة إيقاف الجلسة أو السماح بنقلها إلى المستشفى، بل أمروا
بسجنها فورًا، متحدّين كل معايير الرحمة والقانون الطبي، بل وحتى أبسط مبادئ حقوق الإنسان.
المفارقة الصارخة أن
السيدة نغزة كانت تخضع للعلاج في المستشفى قبل الجلسة، وقد تم استدعاؤها وهي في حالة
صحية متدهورة. ورغم تقديم التقارير الطبية التي توصي بعدم حضورها، أُحضرت بالقوة، لتلقى
في قفص الاتهام كما يُلقى المنبوذ في قفص العقاب الجماعي. لم تكن التهم واضحة للرأي
العام، ولم يصدر عن النيابة العامة أي بيان مفصل يشرح أسباب الإدانة، ما فتح المجال
لتأويلات تؤكد أن الأمر يتعلق بتصفية حسابات شخصية من داخل أروقة النظام.
منذ تولي عبد المجيد
تبون الرئاسة، يسود اعتقاد واسع بأن القضاء الجزائري بات أداة لتصفية الخصوم أكثر من
كونه سلطة لتحقيق العدالة. وقد طالت هذه "المقصلة القضائية" رجال أعمال،
وزراء سابقين، وحتى جنرالات. لكن المثير في حالة نغزة أنها امرأة، ومقاوِلة ناجحة،
ولها حضور دولي، وكانت على رأس منظمة أرباب العمل التي تمثل شريحة من رجال الأعمال
الذين لم يخضعوا بالكامل للمنظومة الريعية الفاسدة.
كانت نغزة من الأصوات
القليلة التي عبّرت عن اعتراضها على السياسات الاقتصادية المرتجلة للنظام، خاصة تلك
المتعلقة بالسيطرة على المؤسسات الخاصة، وغياب الحماية القانونية لرجال الأعمال، وعودة
مناخ الخوف الذي طبع فترة "الجنرالات الحاكمين" في التسعينيات. ويبدو أن
هذا التمرد الرمزي كلّفها ثمناً باهظًا في دولة لا تتحمل "النسوة الجريئات"،
ولا تقبل إلا ولاءً كاملاً غير مشروط.
لا يمكن فصل قضية نغزة
عن السياق الأوسع لما يحدث اليوم في الجزائر: اقتصاد يترنح تحت ضغط النفط المتقلب،
بيئة استثمارية خانقة، هروب رؤوس الأموال، وتزايد عزلة النظام دوليًا بسبب قمع الحريات.
وبينما توظف السلطة شعارات "محاربة الفساد"، فإن الممارسة على الأرض تكشف
انتقائية واضحة، حيث يتم التغاضي عن رموز الفساد الحقيقيين المقربين من دوائر الحكم،
فيما تُستهدف شخصيات غير خاضعة أو متمردة لأسباب سياسية واضحة.
ومن اللافت أن قضية
نغزة قد أعادت إلى الأذهان قضايا مشابهة لرجال أعمال جزائريين مثل «يسعد ربراب» و»علي
حداد»، والذين استُخدموا كأدوات في صراعات الأجنحة داخل السلطة، لا كأهداف حقيقية لعدالة
نزيهة. كما أثارت القضية صدمة في الأوساط الحقوقية النسائية، حيث لم تُراعَ حتى الحالة
الصحية أو الكرامة الإنسانية لنغزة، رغم كونها امرأة مريضة في العقد السادس من عمرها.
إن إسقاط سعيدة نغزة
في قاعة المحكمة ليس فقط سقوطًا جسديًا، بل هو أيضًا سقوط أخلاقي مدوٍّ للنظام القضائي
الجزائري الذي بات يُدار بالتعليمات السياسية، لا بالقوانين. والأدهى من ذلك، أن مشهد
الإغماء لم يدفع القضاة إلى تعليق الجلسة أو احترام "حق الإنسان في الحياة"،
بل تمت مواصلة المحاكمة وكأن الغاية الوحيدة كانت تنفيذ الحكم مهما كانت التبعات.
لقد عبّر هذا المشهد
عن فلسفة متجذرة لدى النظام الجزائري: إما الطاعة أو التصفية. إما أن تكون جزءًا من
جوقة التصفيق، أو تلقى مصيرك في السجون. وليس غريبًا أن يختار النظام هذا التوقيت بالذات
لمعاقبة نغزة، في ظل احتقان اجتماعي وتراجع اقتصادي واستمرار الحراك الشعبي في صور
متعددة. إنها رسالة تخويف موجهة لكل من تسوّل له نفسه التفكير خارج الصندوق، أو التعبير
عن رأي مستقل.
في النهاية، ستدخل
محاكمة سعيدة نغزة التاريخ بوصفها لحظة كاشفة لوحشية الدولة العميقة في الجزائر، وإخفاقها
في بناء مؤسسات تحترم الإنسان، وتصون حقوقه وكرامته. وقد تكون قضيتها بداية لموجة احتجاج
جديدة، أو صفحة مظلمة أخرى في سجل نظام لا يزال يقتات على قمع مواطنيه بدل إنقاذهم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق