حين قرأت بكتاب «ليزي أوشي» «تواريخ مستقبلية» (Future Histories) ، شعرت أنني لا أقرأ كتابًا عن التقنية فحسب، بل عن الأمل الممزوج بالقلق، وعن حلم العدالة الرقمية الذي يتوارى خلف شاشات براقة تُصنع خارج إرادتنا. الكتاب لا ينتمي إلى صنف المؤلفات التقنية التقليدية التي تُمجّد الابتكار أو تُحذر من الذكاء الاصطناعي بصيغة رتيبة. بل هو عمل فكري مقاوم، يسائل التكنولوجيا الحديثة من منظور «تاريخي، سياسي، وثقافي جذري»، ويعيد ربطها بجذور الصراع الاجتماعي والفكري منذ قرون.
في هذا العمل، تقترح
«أوشي» إعادة النظر في تاريخ البشرية لا باعتباره تراكماً للأحداث، بل كمرآة تعكس إمكانيات
أخرى للمستقبل، مسارات لم تُختر، لكنها ما زالت ممكنة. لا تدعونا الكاتبة إلى اختراع
العجلة من جديد، بل إلى إعادة اكتشاف لحظات ثورية ماضية — من «أدا لوفلايس»، رائدة
البرمجة، إلى «توماس بين»، المفكر الراديكالي، ومروراً بكومونة باريس، باعتبارها مثالاً
على التنظيم الشعبي البديل — وتقديمها كمنارات فكرية تقاوم جبروت شركات التكنولوجيا
الحديثة مثل أمازون وغوغل وفيسبوك.
اللغة التي تعتمدها
أوشي لا تندرج في فخ التبجيل أو الرعب من التكنولوجيا، بل هي لغة نقدية، صلبة في مرجعيتها،
لكنها إنسانية في نبرتها. فالتقنية ليست شرًا ولا خيرًا بحد ذاتها، بل هي مساحة نزاع،
حقل يتصارع فيه رأس المال مع الشعوب، وتتصارع فيه المصلحة الفردية مع العدالة الاجتماعية.
وبين سطور هذا الكتاب، يُعاد إحياء مفهوم قديم يتردد صداه في فكر كارل ماركس وبنجامين
والتر وحتى أنجيلا ديفيس: «أن التكنولوجيا لا يمكن فهمها خارج البنية الطبقية التي
أنتجتها.»
ما يجعل هذا الكتاب
فريدًا هو جرأته في المزج بين قصص الأفراد المهمشين في التاريخ، والأنظمة التقنية المعاصرة.
فعلى سبيل المثال، حين تناقش أوشي آدا لوفلايس، لا تكتفي بسرد إنجازها العلمي في البرمجة،
بل تستعرض كيف أن نظرتها إلى الحوسبة كانت رؤيوية وتخيلية، قائمة على «الاحتمال» لا
مجرد الكفاءة. وهنا، تطرح الكاتبة سؤالًا جوهريًا: ماذا لو أن النساء لم يُقصين من
ثورة الحوسبة في القرن العشرين؟ هل كانت التكنولوجيا ستكون مختلفة في جوهرها؟
كما أن الربط بين «كومونة
باريس» ومنصات الإنترنت المعاصرة يبدو للوهلة الأولى مفارقة تاريخية، لكنه في الحقيقة
دعوة جذرية لإعادة تصور الإنترنت كفضاء مشترك، كسلطة جماهيرية، وليس كأداة خاضعة لشركات
تحتكر المعرفة والبيانات. في لحظة تاريخية كتلك، تُمثّل الكومونة — رغم هزيمتها — نموذجًا
لتنظيم مختلف: شفاف، أفقي، مفتوح. أما نحن، فنتنقل في فضاءات رقمية تراقبنا وتُعيد
تشكيل وعينا وفق خوارزميات لا نعرف آلياتها.
الكتاب لا يخلو من
إشارات واضحة إلى «السياسات المعاصرة للمراقبة والتتبع». فهو يتطرق إلى آليات عمل الشركات
التقنية الكبرى، وسلوكها الاستعماري الجديد، حيث يتم استخراج «المادة الخام» من البيانات
الشخصية، تمامًا كما كانت الإمبراطوريات تستخرج الذهب والقطن من مستعمراتها. في هذا
السياق، تبرز رؤية الكاتبة للديمقراطية الرقمية، ليس كترف أخلاقي، بل كضرورة وجودية
لصون الحريات.
إن القارئ العربي،
في ظل التحولات الرقمية الجارية في مجتمعاتنا، مدعو أكثر من أي وقت مضى للانتباه إلى
هذا النوع من الأدبيات. فالرهان على «المستقبل» لا يجب أن يظل حكرًا على وادي السيليكون،
بل يجب أن ينبع من فهم لتواريخنا الخاصة أيضًا، من أسئلتنا، ومن ثقافتنا، ومن حاجتنا
إلى العدالة الرقمية بقدر ما نحتاج إلى البنية التحتية.
قد يؤخذ على الكتاب
أنه يتوجه في كثير من فصوله إلى جمهور مطّلع على الأدبيات الماركسية والنقدية الغربية،
وأنه لا يمنح القارئ العادي مدخلًا مبسطًا لفهم التقنيات الرقمية. لكن هذا لا ينقص
من قيمته التحليلية، بل يعزز مكانته كمرجع فكري أكثر منه دليلاً إجرائيًا.
إن «تواريخ مستقبلية»
ليس فقط كتابًا يُقرأ، بل هو «مشروعٌ للتفكير المستمر». كتاب يدعونا لنكفّ عن النظر
إلى التكنولوجيا كـ»قدر محتوم»، ونبدأ في رؤيتها كأداة قابلة للتشكيل، بالوعي، بالتنظيم،
وباستدعاء أرواح من سبقونا في معارك النور ضد الظلام.
0 التعليقات:
إرسال تعليق