في ظل التصعيد السياسي، والأزمات الاقتصادية، وحالة الانسداد الثقافي والدبلوماسي، تبدو الجزائر وكأنها تكتب فصلاً متجدداً من تاريخها المضطرب، حيث تتقاطع التحذيرات الدولية، مثل تلك الصادرة عن صندوق النقد الدولي، مع صدمات داخلية صادمة، من قبيل وفاة مسؤولين سابقين في السجون دون محاكمات، وحرمان مثقفين من أبسط حقوقهم المدنية. إن العناوين التي تخرج من الجزائر ليست مجرد أخبار متفرقة، بل تعكس صورة عميقة عن أزمة منظومة لا تزال تراوح مكانها منذ ستة عقود من الاستقلال، دون أن تبني نموذجاً مستقراً للتنمية أو العدالة أو التعايش مع العالم.
التحذير الأبرز جاء
من صندوق النقد الدولي، الذي خاطب السلطات الجزائرية بلهجة غير معتادة من مؤسسة عادة
ما تكتفي بالتقارير التقنية. الرسالة كانت واضحة: "أوقفوا فوراً تبديد أموال الدولة".
ليس الأمر مجرد توصية اقتصادية، بل صفعة سياسية تتعلق بسوء إدارة الموارد، في بلد يعيش
على ريع المحروقات ويبدد فوائضه في دعم نظام بيروقراطي متآكل. لم يكن هذا النداء موجهاً
للخبراء فحسب، بل كان إنذارًا للشعب الجزائري بأن من يمسك بزمام الأمور في البلاد لا
يمتلك رؤية اقتصادية مستدامة، بل يسيرها بمنطق ارتجالي قائم على الإنفاق الريعي والمحاباة
السياسية.
في الوقت ذاته، تتواصل
الانهيارات على الصعيد الحقوقي والقضائي. الخبر المفجع بوفاة طارق بوسلامة، الرئيس
السابق لمجمع "إيميتال"، داخل السجن دون أن يُعرض على محكمة، يكشف وحشية
غير مبررة في مؤسسات العدالة. وفاة دون محاكمة ليست فقط فشلاً في تطبيق القانون، بل
إعدامٌ صامتٌ لمبدأ البراءة حتى تثبت الإدانة، وتحول لافت للمحاكم إلى أدوات للتصفية
السياسية أو الإهمال القاتل.
وليس بوسلامة الحالة
الوحيدة، بل تتكرر المأساة مع مثقف جزائري بحجم بوعلام صنصال، الذي لا يزال محرومًا
من أي عفو رئاسي أو مصالحة رمزية، رغم إشارات إيجابية من بعض الشخصيات الجزائرية التي
ما تزال تحاول الحفاظ على بصيص أمل. إن بقاء صنصال في دائرة التهميش، رغم مكانته الفكرية
عالمياً، هو جزء من معادلة قمع الثقافة لصالح خطاب سلطوي يعتبر الفكر الحر تهديداً
لا مورد قوة.
هذا المزيج من الفشل
الاقتصادي، والوحشية القضائية، والعجز عن التصالح مع النخب الفكرية، يرافقه انسداد
في الأفق الدبلوماسي، وخاصة في العلاقة المتوترة مع باريس. فالعنوان "لا أمل في
التهدئة بين الجزائر وباريس" لا يعبر فقط عن أزمة سياسية عابرة، بل يشير إلى عمق
الخلاف بين سرديتين تاريخيتين: الأولى فرنسية تحاول الانسحاب التكتيكي من تاريخها الاستعماري،
والثانية جزائرية لا تزال رهينة مقاربة انتقامية لا تسعفها في بناء مستقبل متوازن ولا
في تحصيل شراكة ناضجة.
وفي خلفية هذه الأحداث،
يتكرر سؤال قديم يتردد منذ 63 عامًا: "هل أنجزنا ما كان يجب إنجازه؟". الجواب
على هذا السؤال المؤلم يظهر بوضوح في يوميات الجزائريين، من بطالة الشباب إلى اختناق
الحريات، ومن النزيف المستمر للكفاءات نحو الخارج إلى انفصام الدولة عن المواطن. لقد
أنفقت الجزائر المليارات من عائدات النفط، لكنها لم تُنجز تحولاً حقيقياً في البنية
التحتية أو المنظومة التعليمية أو القضائية، بل استهلكت المشروع الوطني نفسه في خطاب
الثورات والبطولات القديمة، متجاهلة أن الثورة الحقيقية تبدأ من الإنسان الحر، لا من
الشعارات المستهلكة.
وفي سياق كهذا، تبدو
إشارات الانفراج -مثل الحديث عن "ثلاثة محاورين جزائريين إيجابيين" إزاء
مصير بوعلام صنصال– محاولات فردية لا تلبث أن تصطدم بجدار النظام المغلق، الذي لا يقبل
التغيير إلا مضطراً، ولا يسمع الأصوات إلا إذا كانت مكرسة لتكرار ما يريده. لكن حتى
هذا النظام بات اليوم في مواجهة ثلاث جبهات: غضب داخلي متصاعد، شك دولي متنامٍ، وحصار
رمزي من المثقفين والمنظمات الحقوقية.
إن مستقبل الجزائر
لن يُرسم من خلال البيانات الرئاسية أو حملات التخوين، بل من خلال مراجعة جذرية لطبيعة
الدولة نفسها، وللمكانة التي تريدها لنفسها في الداخل والخارج. فالإفراج عن معتقلي
الرأي، وإنهاء الاعتقال دون محاكمة، والمصالحة مع مثقفي البلاد، والقطع مع اقتصاد الريع،
كلها ليست مطالب نخبوية، بل شروط وجود لأي مشروع وطني قابل للحياة.
قد لا يكون كل شيء
قد ضاع بعد، كما تقول إحدى العناوين المتفائلة، لكن الإبقاء على بصيص الأمل يستدعي
إرادة سياسية حقيقية، لا مجرد مناورات تكتيكية، ولا مراوغات لغوية في الخطاب الرسمي.
في لحظة كهذه، إما أن تراجع الجزائر بوصلتها التاريخية، أو تواصل الدوران في حلقة التكرار
المهين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق