يأتي كتاب "The Truthful Art" " فن قول الحقيقة" للصحفي والمصمم البصري «ألبيرتو كايرو» كصرخة هادئة، تنادي بضرورة إعادة الاعتبار للحقيقة في عالم غارق في البيانات. لا يكتفي كايرو في هذا الكتاب بتقديم أدوات لعرض البيانات، بل يبني أطروحة فلسفية وأخلاقية متماسكة حول وظيفة الصحفي والمصمم في عصر الرقمنة.
الكتاب، الذي صدر عام 2016، يُعد مكمّلاً لعمله السابق "The Functional Art"، لكنه يذهب أبعد من مجرد الجانب التقني للرسوم البيانية ليُدخلنا في قلب النقاش حول العلاقة بين «الصدق، والوضوح، والجمال، والهدف الأخلاقي للاتصال البصري».
منذ الصفحات الأولى،
يرفض كايرو الفصل التقليدي بين العلم والفن. فهو يرى أن «فن عرض البيانات ليس فقط أداة
لتجميل الأرقام، بل وسيلة للوصول إلى الحقيقة». يعتمد في أطروحته على مفاهيم رياضية
وإحصائية – من التوزيع والانحراف المعياري إلى التحيزات الإدراكية – لكنه يعالجها بلغة
مبسطة دون أن يفقد عمقها. من هذا المنطلق، يصبح المصمم البصري أشبه بعالم وصحفي وفنان
في آن واحد، دوره أن يقود الجمهور نحو الفهم لا نحو الانبهار السطحي.
ربما أكثر ما يميز
هذا الكتاب هو تركيزه على «الصدق كقيمة ناظمة» في العمل البصري. لا يقصد كايرو الصدق
بالمعنى الضيق – أي الدقة الرقمية – بل يتحدث عن صدق أشمل: «هل يساعد التصميم القارئ
على الفهم؟ هل يحترم تعقيد الحقيقة أم يبسطها بشكل خادع؟» وفي هذا السياق، يهاجم المؤلف
بشدة ما يسميه "الإغراء البياني" أو الـ»chartjunk»، أي الاستخدام الزائد للزينة والإبهار البصري
على حساب المعنى.
في هذا السياق، يستحضر
كايرو العديد من الأمثلة – من رسومات الجداول المعقدة في الصحافة إلى الرسوم المتحركة
في البرامج التلفزيونية – ليُظهر كيف يمكن لخطأ بسيط في مقياس المحور العمودي، أو اختيار
لون غير موفق، أن يقود إلى استنتاج خاطئ تماماً. ويتوقف عند حالة تقرير صحفي شهير استخدم
رسماً بيانياً مضلِّلاً لتصوير نسبة الجرائم بين فئات عرقية في الولايات المتحدة، ليؤكد
أن «الخطأ في تصميم البيانات ليس مجرد خلل فني بل انزلاق أخلاقي خطير».
إحدى نقاط القوة في
كتاب
"فن قول الحقيقة" هي أنه لا يخاطب فقط المصممين والصحفيين،
بل أيضاً «المربين، والطلبة، والمواطنين العاديين». إنه دعوة إلى «التفكير النقدي»،
إلى قراءة البيانات كما نقرأ الشعر، وإلى عدم تصديق أي رسم بياني دون التساؤل عن مصدره،
وسياقه، وطريقة بنائه. وبهذا المعنى، فالكتاب ليس مجرد دليل مهني، بل «مشروع تنويري»
في زمن "ما بعد الحقيقة".
يقول كايرو: «"البيانات
ليست الحقيقة، بل تمثيل ناقص لها."« وهذه المقولة تلخص فلسفة الكتاب بأكمله: «الرسوم
البيانية أدوات سرد، تنقل سردية ما، قد تكون صادقة أو خادعة.» والمهمة الأخلاقية للمصمم
تكمن في تقليص الفجوة بين التمثيل والحقيقة.
يمتاز كايرو بقدرته
على «الموازنة بين الجمال والوظيفة». لا ينكر أهمية البعد الجمالي في التصميم، لكنه
يرفض أن يكون هدفاً في حد ذاته. الجمال في رأيه يجب أن يخدم الفهم، لا أن يعطله. وفي
فصل كامل حول "جمال الحقيقة"، يناقش كيف يمكن استخدام الألوان، والأحجام،
والحركة، لتوجيه نظر القارئ إلى المهم، دون تشويش أو خداع. إن «التصميم الجيد يشبه
الكتابة الجيدة: لا تشعر بوجوده لأنه لا يسرق منك التركيز بل يدلك على المعنى.»
الكتاب مليء بالأمثلة
العملية والتمارين والنصائح، ما يجعله مفيدًا بشكل خاص للمشتغلين في الصحافة والبيانات.
كما يستشهد بأعمال أعلام كبار مثل «هانز روسلينغ» و»إدوارد توفت»، مما يمنح القارئ
خلفية ثرية في تطور هذا المجال. ويقدم في كل فصل شروحاً تقنية مبسطة لأدوات التحليل
الإحصائي والتصميم، بطريقة تحترم ذكاء القارئ دون تعقيد غير ضروري.
في النهاية، لا يهدف
كايرو إلى تدريب جيل من المصممين المحترفين فقط، بل يسعى إلى «بناء مواطنين قادرين
على فهم العالم من خلال البيانات، لا الانبهار بها». وفي هذا العصر الذي تُستخدم فيه
البيانات كسلاح سياسي واقتصادي وإعلامي، فإن
"فن قول
الحقيقة"
هو أكثر من مجرد كتاب
تصميم؛ إنه «بيانٌ أخلاقي من أجل النزاهة، والتفكير النقدي، والمساءلة البصرية.»
إنه تذكير بأن قول
الحقيقة في عصر المعلومات المضلّلة، «فن نادر، يتطلب الشجاعة، والمعرفة، والنية الصافية».
0 التعليقات:
إرسال تعليق