الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، يوليو 06، 2025

«اللعب بالنص: أدب يتحوّل إلى مغامرة تفاعلية» عبده حقي


في العصر الرقمي، حيث تحوّلت المعرفة إلى تدفقات من الصور والنصوص المختزلة، لم يعد الأدب قادرًا على الاستمرار بالهيئة الورقية التقليدية وحدها. لقد صار النص الأدبي يطرق أبوابًا غير مسبوقة ليتحرّر من قيد الصفحات ويعيد تشكيل نفسه في فضاء رقمي يرحّب بالتجريب والتفاعل. ومن بين أبرز هذه التحوّلات ما بات يُعرف بـ "تَلعِيب القراءة" أو «Gamification of Reading، وهو توجه ثقافي وتقني يعيد ابتكار الأدب ليُقدّم ضمن هياكل ألعاب، حيث يصبح القارئ لاعبًا، والقراءة مغامرة، والنص عالماً قابلاً للاستكشاف لا مجرد تسلسل سردي خطي.

قد تبدو هذه الظاهرة – في ظاهرها – تهديدًا للنصوص الأدبية الكلاسيكية، لكنها في العمق امتداد لها؛ بل محاولة لتجديد الصلة بين الإنسان والنص، بعد أن صارت القراءة فعلًا هامشيًا في ظل هيمنة الفيديوهات القصيرة والمنصات البصرية. ولعل من المفيد استحضار ما أشار إليه الناقد الأمريكي «هنري جنكينز» في كتابه "Convergence Culture"، حيث تحدث عن تلاقي الثقافات الإعلامية، مشيرًا إلى أن الحدود بين الألعاب والنصوص والفنون صارت قابلة للاختراق، وأن جمهور اليوم لا يكتفي بالاستهلاك، بل يريد التفاعل والإبداع داخل العوالم التي تعرض عليه.

تُعيد هذه الظاهرة الاعتبار لمفهوم "اللعب" بوصفه فعلاً معرفيًا. فقد بيّن الفيلسوف الهولندي «يوهان هويزينغا» في عمله المرجعي "Homo Ludens" أن اللعب ليس نقيضًا للجد، بل هو أحد أوجه الثقافة، ورافعة من روافع الخلق الفني والمعرفي. بهذا المنظور، يمكن القول إن إدخال عناصر الألعاب إلى الأدب – مثل النقاط، والمراحل، والمفاتيح، والخرائط، والشخصيات القابلة للتحكّم – ليس مجرد محاولة للتسلية، بل استجابة لتحولات أعمق في علاقة الإنسان بالمعلومة والمعنى.

في هذا الإطار، ظهرت تجارب سردية رقمية تعتبر رائدة في المزج بين الأدب والألعاب، مثل روايات «hypertext fiction» التي تتيح للقارئ اختيار مسار الحكاية، أو منصات مثل «Twine» التي تسمح بكتابة قصص تفاعلية تُقدَّم على شكل لعبة خفيفة، حيث يقرر القارئ مصير الشخصية بخيارات متعددة. كما شهدت السنوات الأخيرة رواجا لما يسمى بـ «Narrative Games، مثل "80 Days" أو "Her Story"، والتي تقوم على سرد معقّد يضع القارئ في موضع المحقق أو البطل، فيتحول من متلقٍ إلى صانع للحبكة.

لكن هذا التحوّل لا يخلو من تحديات فكرية وجمالية. إذ يثير أسئلة حول طبيعة الأدب وحدوده، ومصير القراءة التأملية العميقة في مقابل التفاعل السريع. هل يمكن للنصوص المتلعّبة أن تحافظ على قوة اللغة الشعرية ورمزية الصور؟ أم أن هيمنة اللعب ستفرغ النص من روحه وتحوّله إلى سلسلة مهام وقرارات باردة؟ هنا تتقاطع ملاحظات الباحثة الفرنسية «ماري لور رايان»، التي ميّزت بين "الانغماس السردي" و"التفاعل السطحي"، محذّرة من أن الإغراق في تقنيات اللعب قد يُضعف كثافة التجربة الجمالية.

مع ذلك، لا يمكن تجاهل البعد الديمقراطي لهذا الاتجاه. فالقراءة في شكل لعبة تفتح الباب أمام جمهور جديد من الأطفال والمراهقين، الذين تربوا على الشاشات، وقد يجدون في هذه الأشكال بوابة أولى نحو الأدب. وهنا تبرز مبادرات تعليمية واعية مثل مشروع  "BookR Class"  الذي يُقدّم الكلاسيكيات الأدبية للأطفال عبر قصص تفاعلية مصوّرة، توفّر لهم فرصة الاستمتاع والفهم في آن.

وفي العالم العربي، ما زال هذا الاتجاه في بداياته. لكنّ بعض التجارب بدأت تُضيء هذا الأفق، مثل المنصة التونسية «"فصلة"« التي تسعى إلى تقديم سرديات تفاعلية بالعربية، أو مبادرات شبابية تعتمد على قصص مستلهمة من التراث وتُعرض في تطبيقات على شكل مغامرات نصية. وهذا ما يدعو إلى الاستثمار في هذا المجال، سواء من طرف دور النشر أو وزارات الثقافة، لا من أجل "اللعب" بالمحتوى، بل لتجديد طرائق التلقي والتربية الأدبية.

في النهاية، تَلعِيب الأدب ليس خيانة له، بل إحدى محاولاته للاستمرار في عالم تغيرت فيه قوانين الانتباه، وشروط المعنى، وسرعة التفاعل. ولعل المستقبل الأدبي سيشهد تعايشًا جديدًا بين النص واللعبة، بين الكاتب والمبرمج، بين القارئ واللاعب، كما لو أن الأدب نفسه عاد ليكتب أول مغامراته في العصر الرقمي... لا بقلم، بل بلوحة مفاتيح وفضول طَفوليّ لا يملّ من طرح السؤال الأبدي: *وماذا لو...؟

0 التعليقات: