الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يوليو 09، 2025

الذكاء الاصطناعي: البوصلة الجديدة لدقة الأخبار في زمن التضليل: عبده حقي


لم يعد السؤال المطروح اليوم عن مدى دخول الذكاء الاصطناعي إلى الحقل الإعلامي، بل عن كيفية تحويله إلى أداة لخدمة الحقيقة في زمن تتكاثر فيه الضلالات كما تتكاثر الطفيليات في بيئة موبوءة. ففي مشهد يتأرجح بين وفرة المعلومات وخطر التضليل، يبرز الذكاء الاصطناعي كأحد أكثر الابتكارات التقنية إلحاحاً لتقوية عمود الصحافة الفقري: دقة الخبر وموثوقية المعلومة
.

تاريخياً، كانت الصحافة الاستقصائية تعتمد على التمحيص اليدوي للوثائق، والمصادر البشرية، والتحقيقات الميدانية الشاقة. لكن مع الطوفان الرقمي الهائل، لم تعد الوسائل التقليدية كافية لفرز الغث من السمين. هنا تبرز خوارزميات الذكاء الاصطناعي – بما فيها تقنيات تحليل النصوص، ورصد الأنماط، والتعرف على الصور – كحراس جدد للبوابة الإعلامية، قادرين على كشف التزييف، وتحديد المصادر الأصلية، وحتى التحقق من التلاعبات الخفية في المعطيات أو الصور.

لنأخذ على سبيل المثال تجربة وكالة "رويترز" التي استثمرت في نظام ذكي لتحليل سلاسل الأخبار العاجلة على تويتر، والتمييز بين الأخبار الحقيقية والإشاعات. هذا النظام لم يكن فقط أسرع من الصحفي التقليدي في التقاط الخبر، بل كان أيضاً أكثر دقة في استبعاد الشائعات. وقد أكدت دراسة نشرتها مجلة «Journalism Practice» سنة 2022 أن أنظمة الذكاء الاصطناعي استطاعت أن تحقق معدل دقة يصل إلى 85% في التحقق من الأخبار مقارنة بـ 62% لدى المراجعة البشرية العاجلة.

لكن المسألة لا تقف عند حدود الكشف عن التضليل؛ الذكاء الاصطناعي أصبح أيضاً رفيقاً جديداً للصحفيين في أعمال التحرير والتقصي. في تجربة أطلقتها صحيفة

الواشنطن بوست عبر نظامهاهيليوغراف، تمكّن الذكاء الاصطناعي من تغطية آلاف الأحداث الرياضية والانتخابية بشكل تلقائي، مستنداً إلى بيانات موثقة، ومتجنباً السقوط في فخ الخطأ البشري أو الانحياز.

ورغم هذه الأمثلة المشجعة، إلا أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والحقيقة ليست دوماً وردية. فكما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز دقة الأخبار، يمكنه – إن وُجّه لأغراض غير نزيهة – أن يُنتج محتوى مضللاً على نحو أكثر إقناعاً. وقد حذر الصحفي البريطاني "كارستن بروكلمان" في كتابه «Fake News and the Machine» " الأخبار الكاذبة والآلة " من خطورة ما أسماه بـ"التضليل المؤتمت"، أي المحتوى المزيف الذي يُنتَج باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، ويُضخ عبر حسابات آلية أو شبكات مدفوعة، ويصعب تمييزه من حيث الأسلوب والبنية عن الأخبار الحقيقية.

 

وهنا، يصبح لزاماً على المؤسسات الإعلامية أن تتبنى معايير جديدة للشفافية، تشمل الإفصاح عن استخدام الأدوات الذكية في التحرير، وتوفير مصادر مفتوحة للبيانات، والعمل على تطوير مهارات الصحفيين الرقمية. فكما يحتاج الطبيب إلى إتقان استخدام أجهزة التصوير الحديثة، يحتاج الصحفي اليوم إلى فهم آليات الذكاء الاصطناعي، لا لمنافسته، بل لتوظيفه في تعزيز وظيفته الأصلية: نقل الحقيقة دون تشويه.

في السياق العربي، تبدو التجربة لا تزال في بدايتها، مع محاولات محدودة مثل استخدام "سكاي نيوز عربية" أو "الجزيرة نت" لأدوات الذكاء الاصطناعي في تنقيح النصوص أو تصنيف الأخبار. لكن ما ينقص التجربة ليس التكنولوجيا بل الرؤية: كيف يمكن للإعلام العربي أن يتبنى الذكاء الاصطناعي لا باعتباره مجرد أداة للزينة الرقمية، بل كرافعة أخلاقية ومهنية في معركة الحقيقة؟

إن أهم ما يقدمه الذكاء الاصطناعي للصحافة ليس السرعة ولا الأتمتة، بل إمكانه خلق علاقة جديدة بين الصحفي والمعلومة؛ علاقة تقوم على التفاعل الذكي مع الكم الهائل من البيانات، وعلى استخدام التحليل الإحصائي والتقني لتأكيد الوقائع لا مجرد نقلها. في هذا السياق، يمكننا أن نعيد قراءة قول الفيلسوف هابرماس عن "الفضاء العمومي" بوصفه فضاءً مشتركاً للحقيقة والمساءلة، لكننا اليوم نضيف إليه: فضاءً محروساً بالذكاء الاصطناعي، إن أحسن استخدامه.

قد لا يكون الذكاء الاصطناعي عصا سحرية تمحو الأكاذيب، لكنه بلا شك مرآة تكشف زيف الأقنعة إذا وُجهت بشكل أخلاقي ومهني. ولعل التحدي الأهم اليوم ليس في امتلاك التكنولوجيا، بل في صوغ ميثاق أخلاقي جديد يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والآلة داخل غرفة الأخبار. ففي زمن يسهل فيه التلاعب بالحقيقة كما يُعاد تشكيل وجه على تطبيق "فوتوشوب"، يصبح امتلاك أدوات الذكاء الاصطناعي لا ترفاً، بل ضرورة وجودية لصون جوهر الصحافة: قول الحقيقة في وجه الزيف، مهما تغيرت الوجوه.

0 التعليقات: