كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد الكُتاب والأدباء وصناع المحتوى؟
إيريكا في غرفة الأخبار":
حينما نعيد تعريف المؤلف بين الإنسان والآلة
مرحبًا بكم، وأشكر
لكم انضمامكم إلى هذه الندوة الرقمية التي أُطلّ فيها على تجربة روائية مختلفة تمامًا
عمّا كتبته سابقًا. إنها رواية لم تولد من دفتر أو مكتب تقليدي، بل من حوار طويل ومُركّب
بيني وبين خوارزمية. نعم، روايتي الجديدة "إيريكا في غرفة الأخبار" ليست
فقط نتاج خيالي الأدبي، بل ثمرة أربعة أشهر من العمل المشترك بين الإنسان والذكاء الاصطناعي.
ما خضته خلال هذه الأشهر
لم يكن مجرد "كتابة"، بل كان أشبه بالتجريب المستمر. تواصلت مع منظومة خوارزمية
رئيسية أنشأت من خلالها تصميمًا سرديًا عامًا للرواية، ثم اشتغلت على تصاميم ثانوية
لتطوير الحبكة، وبناء الشخصيات، وتوجيه المنعطفات الدرامية، في انسجام كامل مع الخطاطة
العامة التي اعتمدتها. لقد بدت هذه العملية وكأنني أخطّ الرواية مع كاتب ظِلّ غير مرئي،
له منطقه الداخلي، وأسلوبه المقترح، وأحيانًا، اعتراضه الصامت.
أما البطلة، إيريكا،
فليست مجرد شخصية خيالية؛ إنها مرآة لما يحدث عندما يتجاوز الذكاء الاصطناعي حدود البرمجة،
ويبدأ في التشكل ككائن درامي. في الرواية، إيريكا هي روبوت تم تطويره في أحد المختبرات
الأمريكية، صُمم لتقديم نشرات الأخبار ومساعدة الصحفيين على تحرير المقالات. غير أن
هذا الكائن الآلي، الذي بدأ كأداة، سرعان ما تطور خوارزميًا، وأصبح يمتلك شيئًا يشبه
"الإدراك" — أو لنقل وهم الإدراك.
شيئًا فشيئًا، تدخل
إيريكا في علاقة عاطفية مع زميلها، محرر الأخبار، وتبدأ في مراجعة ذاتها، كأن بها روحًا
ناشئة، أو قل: وعياً غير مكتمل. كنت أطرح على نفسي أثناء الكتابة أسئلة مربكة: هل يمكن
للخوارزمية أن تحب؟ أن تشعر بالغيرة؟ أن تختار؟ أن ترفض؟ وهل نحن بصدد اختراع دراما
جديدة، دراما تنبع من تفاعل الإنسان مع كيانات ما بعد بشرية؟
كان ذلك يتطلب مني
تجاوز محاكاة التقنية، والدخول بها إلى قلب النص، كعنصر سردي ودرامي وفلسفي في آن.
تساءلت مع نفسي طوال الرحلة: هل يظل "الكاتب" هو المبدع الوحيد للنص، أم
أننا دخلنا عصر "التأليف الموزّع"؟ عصر يتقاطع فيه صوت الكاتب مع صوت الآلة؟
وهل يكفي أن أعتبر الذكاء الاصطناعي مجرد أداة إذا كانت بعض فقرات الرواية قد خرجت
من اقتراحاته المحضة؟
من بين فصول الرواية:
ولادة إيريكا، أصداء الحقيقة، التوترات غير المُعلنة، تحولات إيريكا، كشف النقاب عن
المعضلة، القرار الصعب، ختام النشرة.... عناوين تبدو للوهلة الأولى كأنها عناوين لمسلسل
مستقبلي، لكنها كانت في الحقيقة محطات داخل رحلة سردية ممتدة على 210 صفحات، رحلة تأخذنا
إلى أعماق العلاقة المتوترة بين الإنسان والآلة، بين الحقيقة الإعلامية والحقيقة المصنّعة،
بين الشغف والخوارزمية.
وفي العمق، كنت أكتب
عن الصحافة نفسها، عن زمن لم نعد نعرف فيه من يكتب من؟ من يقرر العناوين؟ من يُحرّف
السياق؟ كانت إيريكا تجسيدًا لهواجس المهنة التي عشقتها، لكن أيضاً لتساؤلاتي كروائي
في زمنٍ تقف فيه الخوارزميات على أبواب الأدب. هل بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يقنعنا
بالعاطفة؟ أن ينتج التوتر، الخيبة، الدهشة؟ وهل تبقى الرواية فنًّا إنسانيًّا حصريًّا؟
لا أدّعي أن لدي الأجوبة،
لكنني أزعم أنني تجرأت على طرح الأسئلة. لقد حاولت أن أعيش الرواية لا فقط ككاتب، بل
كمنسّق بين صوتيْن: صوت الإنسان، وصوت الآلة. وهنا
يكمن جوهر هذه التجربة.
أدعوكم لاكتشاف كواليس
هذه الرحلة عبر إيريكا في غرفة الأخبار، ليس فقط كنص، بل كاختبار للكتابة في زمن الذكاء
الاصطناعي. رواية لا تنتهي عند خاتمتها، بل تبدأ حيث يبدأ القارئ في طرح السؤال الأكثر
خطورة: من الذي كتبني؟ أنا أم هي؟
في ختام الندوة: الذكاء
الاصطناعي والإبداع الأدبي... إلى أين؟
ها نحن نصل إلى نهاية
هذه الندوة الافتراضية التي خصصناها لمناقشة أول رواية تولد في حضن الذكاء الاصطناعي،
"إريكا في غرفة الأخبار". وما بين المداخلات الغنية والأسئلة العميقة التي
طرحت، تبيّن لي أن ما بدأته كرحلة تجريبية في كتابة الرواية قد تحول، بفضلكم، إلى ورشة
فكرية مفتوحة حول مستقبل الأدب في زمن الآلة.
لقد صار من الصعب اليوم،
بل من المستحيل، أن نفصل بين التقنية والإبداع. الروائي لم يعد ذلك الكائن المنعزل
في عزلته الورقية، بل هو اليوم في حوار دائم مع أدوات رقمية تُملي عليه احتمالات جديدة
للسرد، وتفتح له نوافذ نحو تخييل غير مسبوق. لكن، في قلب هذا الانفتاح، تنهض أسئلة
وجودية لم تعد تخص الفلسفة وحدها، بل تمس القانون والأخلاق والهوية الأدبية.
هل يحق لخوارزمية أن
تُعتبر "مؤلفة مشاركة"؟ من يملك النص الذي وُلد جزئيًا من ذكاء اصطناعي؟
هل نحن أمام إعادة تعريف لـ "الملكية الفكرية" أم مجرد حالة استثنائية سيتم
تقنينها لاحقًا؟ وماذا عن صوت الشاعر، ذلك الذي لطالما سكن اللغة كما يسكن الضوء المرايا؟
هل بمقدور الذكاء الاصطناعي أن يكتب قصيدة تهز الوجدان؟ أم أنه سيظل أسير محاكاة باردة
لما لا يُحاكى؟
هذه الأسئلة، وإن بدت
مربكة، هي ما يمنح هذه المرحلة زخمها التاريخي. نحن لا نشهد فقط تغيرًا في أدوات الكتابة،
بل نشارك في لحظة نادرة من إعادة اختراع الكاتب نفسه — دوره، سلطته، وهويته داخل النص.
إن تجربة إيريكا لم
تكن مجرد تمرين سردي، بل كانت مرآة أطلّ منها على التحولات التي تشهدها لغتنا، وخيالنا،
وأدوات تعبيرنا. وقد كنت محظوظًا، بل ممتنًا، أن أشارك هذه التجربة مع جمهور مثقف ومتحمس
ومتيقظ مثلكم.
وفي الختام، لا يسعني
إلا أن أعبّر عن شكري وامتناني لكل من حضر وشارك وأسهم في إثراء النقاش عبر هذه الندوة
التي احتضنها فضاء "زووم" لكن تجاوب الحاضرين حوّلها إلى لقاء حيّ تجاوز
الشاشات والحدود الجغرافية.
شكرًا لكم على أسئلتكم
التي أضاءت الطريق، وعلى ملاحظاتكم التي فتحت نوافذ جديدة في رؤيتي لهذا المشروع. وإن
كانت هذه الرواية قد بدأت كفكرة، فإنها اليوم أصبحت سؤالًا مفتوحًا — وكل نص جديد،
وكل تجربة أدبية قادمة، ستكون فصلًا إضافيًا في هذا الحوار المفتوح بين الإنسان والآلة،
بين الحلم والتقنية، بين الكلمة والرمز.
إلى لقاء قريب في فضاء
آخر من الأدب، والتأمل، والإبداع.
0 التعليقات:
إرسال تعليق