يبدو أن مصطلح "الواجهة" (Interface) بات في عصرنا الرقمي مرادفًا لكل عملية تفاعل بين الإنسان والتقنية. غير أن المفكر والمنظّر الإعلامي ألكسندر غالووي، في كتابه اللافت «The Interface Effect» (تأثير الواجهة)، يوسّع نطاق التفكير إلى ما هو أبعد من الوظائف التقنية، ليُقدِّم قراءة فلسفية وسياسية وثقافية لوظيفة الواجهة باعتبارها بنية أيديولوجية ومعرفية تُعيد إنتاج الواقع، لا مجرد وسيلة للوصول إليه.
في هذا الكتاب الصادر
عام 2012، يشتبك غالووي مع إرث مفاهيمي معقد، يستمده من الماركسية، والنظرية النقدية،
ودراسات الإعلام، ليفكك افتراضًا شائعًا بأن الواجهات شفافة أو محايدة. بل على العكس،
يرى غالووي أن الواجهة تعمل كـ"حجاب"، على حد تعبيره، تخفي ما يجري خلفها،
بينما تدّعي الوضوح والبساطة، وبذلك فهي تُعيد تشكيل إدراكنا للواقع، وتصوغ وعينا بطريقة
قد تكون مُنحازة أو موجَّهة.
يعتمد غالووي في تنظيره
على التمييز بين شكلين أساسيين من "الوساطة" media: وسائط التمثيل (representation) ووسائط التشغيل (operation). ففي حين عملت وسائط الحداثة كالرواية أو السينما
على تمثيل العالم عبر السرد أو الصورة، فإن الوسائط الرقمية لا "تمثّل" العالم
بقدر ما "تُشغّله" – أي أنها تدخل في صميم بنيته التشغيلية، وتعيد تشكيل
منطق الفعل نفسه. وهنا تأتي أهمية الواجهة: إنها ليست مجرد سطح تصميمي أو نقطة اتصال،
بل بُنية تتحكم في شروط التفاعل، وبالتالي في شروط المعرفة ذاتها.
تُشكّل هذه الفكرة
حجر الزاوية في أطروحة غالووي، وتتيح له نقد أنماط التقنية السائدة في الشبكات، الألعاب،
تطبيقات الويب، وحتى السياسات الرقمية. ففي مقارباته للعبة الفيديو، على سبيل المثال،
لا يرى فيها مجرد أداة ترفيه، بل منظومة رمزية تُجسّد علاقات السلطة والتخطيط والتحكم.
إن اللعب – بوصفه تفاعلاً مباشرًا مع بنية محكومة مسبقًا – يُعيد إنتاج نموذج للعالم
تكون فيه القواعد مفروضة، والحرية مشروطة بمساحات ضيقة من الاختيار المضلِّل.
إحدى أهم الإشارات
اللافتة في الكتاب هي طريقة غالووي في نقد "شفافية" الواجهات الحديثة، خاصة
في زمن الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي. ففي الوقت الذي يُروَّج فيه لهذه الأدوات
باعتبارها تعزز "الانفتاح" والديمقراطية الرقمية، يشير غالووي إلى أن هذه
الشفافية المزعومة ما هي إلا تغليف لعمليات معقدة من الرصد، والمراقبة، والتحكم في
البيانات والمستخدمين. وهنا تتقاطع أفكاره مع ما ذهب إليه ميشيل فوكو في تحليله للسلطة،
ومع شوشانا زوبوف لاحقًا في كتابها «عصر رأسمالية المراقبة».
من النقاط الفلسفية
العميقة التي يطرحها غالووي أيضًا هي العلاقة بين "الواجهة" و"الواقع"،
حيث يتحدى التصوّر الكلاسيكي بأن الواجهة مجرد وسيط بين المستخدم والعالم. بل يؤكد
أن الواجهة هي جزء من العالم ذاته، وهي تُشارك في إنتاج الواقع لا نقله. وكأنه يعيدنا
هنا إلى نقاشات جاك دريدا حول الكتابة والوسيط، أو إلى بنيوية رولان بارت حيث لا وجود
لحقيقة خارج اللغة أو النظام الرمزي.
وبينما يقدّم الكتاب
فصولًا تطبيقية عن الألعاب والفن الرقمي والأنظمة الشبكية، إلا أن قيمته الأكبر تكمن
في فتحه لنقاش نظري حاد حول ما يعنيه أن نعيش في عالم تتوسطه الواجهات. عالم لا تُرى
فيه السلطة في برج مراقبة أعلى، بل تتموضع داخل الأكواد، وتُمارس من خلال الخوارزميات،
وتُقنَّن في التصميم التفاعلي.
لكن، لا يخلو كتاب «The Interface Effect» من تعقيد نظري قد يُربك القارئ غير المتمرّس
في النقد الثقافي المعاصر أو النظرية الماركسية. فغالووي، كعادته، لا يتبنى أسلوبًا
مبسطًا، بل يتعمّد غالبًا استخدام لغة تحليلية كثيفة، قد تتطلب قراءة متأنية متكررة.
ومع ذلك، فإن القارئ المثابر سيجد في هذا النص كنزًا مفاهيميًا لفهم البنى المعاصرة
للمعرفة والسلطة.
ما يميز غالووي عن
غيره من منظّري الوسائط الرقمية هو أنه لا ينزلق إلى الحتمية التقنية، ولا يستسلم لحماس
غير نقدي تجاه الابتكار الرقمي، بل يُصرّ على تحليل كل أداة تكنولوجية كجزء من سياق
سياسي واقتصادي أوسع. فـ"الواجهة" ليست منتجًا هندسيًا فحسب، بل تعبير عن
منطق إنتاجي رأسمالي، يُعيد تشكيل علاقتنا بالزمن، والمسافة، والذات.
وفي خضم هذا كله، يذكّرنا
غالووي بأن النقد لا يزال ممكنًا، رغم سطوة الخوارزميات، وأن إعادة التفكير في شكل
الوسيط – لا مضمونه فقط – هو شرط أساسي لفهم معاصر للعالم الرقمي.
««في الختام»«، يمكن اعتبار «The
Interface Effect» نصًا تأسيسيًا
في نقد الوسائط الرقمية الحديثة، وهو يضع القارئ أمام سؤال وجودي وفلسفي: ماذا لو لم
تكن التكنولوجيا مجرد أداة في خدمتنا، بل بنية نعيش داخلها، ونتشكل عبرها؟ إنه كتاب
لا يُكتفى بقراءته، بل يُقرأ ضد نفسه، كما يقول غالووي نفسه: "الواجهة تُخفي بقدر
ما تُظهر، وتُنتج بقدر ما تُنقل" – وهذه هي المفارقة التي تجعل الكتاب ضرورة فكرية
في عصر يُعيد فيه كل شيء تعريف نفسه عبر الشاشة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق