الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، يوليو 13، 2025

الصحافة الرقمية وأخلاقيات الخبر في مهبّ التحوّل: ترجمة عبده حقي


لم أعد أقرأ الصحف كما كنت في السابق. لم أعد أُصغي إلى المذياع بصبر الباحث عن الحقيقة، ولا أتابع نشرات الأخبار بنفس الطمأنينة التي كانت تستند إلى ثقة لا تتزعزع في سلطة الكلمة وصوت المذيع. لقد تغيّرت الصحافة، كما تغيّرتُ أنا، تحت وطأة التحوّل الرقمي الذي لم يترك مجالًا من مجالات الحياة إلا وطبع عليه بصمته. غير أن أكثر ما يستوقفني ليس هذا التغيّر التقني المدهش، بل ذاك الزلزال القيمي والأخلاقي الذي مسّ صميم مهنة المتاعب، كما كانت تُسمّى.

الصحافة الرقمية ليست مجرد وسيلة جديدة لنقل الأخبار، بل هي نمط وجود كامل يفرض على الصحفي أن يكون محررًا ومصوّرًا ومروّجًا ومحللاً في آن. هذا التعدّد في الأدوار جعل من الصعب فصل القيم المهنية عن ضغط السوق وسباق الزمن والتفاعل. فهل ما زالت مفاهيم مثل التحقق، والحياد، والموضوعية، والحق في التصحيح، تجد مكانًا في زمن "اللايك" و"الترند" و"السبق اللحظي"؟

حين قرأت كتاب "أخلاقيات الصحافة في العصر الرقمي" للباحث البريطاني

«Stephen J. A. Ward، شعرت وكأنني أواجه مرآة مشروخة تعكس ملامح مهنة تتشظى بين المبادئ والتقنيات. يشير وورد إلى أن أخلاقيات الصحافة لم تعد تقتصر على مدوّنة سلوك مهنية تقليدية، بل باتت مسألة "عابرة للوسائط"، تحتاج إلى تحديث مستمر يعيد ضبط العلاقة بين الصحفي والجمهور والخبر. وهذه العلاقة لم تعد تقوم على التفويض بل على التفاعل، ولم تعد تُبنى على السلطة بل على الشفافية، حتى لو كانت مزيفة أحيانًا.

لقد أدركت من خلال عملي واحتكاكي بالإعلاميين الشباب أن أغلبهم لا يتعاملون مع الأخلاقيات بوصفها جوهرًا، بل كعقبة تعيقهم عن الوصول إلى أكبر عدد من المشاهدات. كيف لا وهم يعملون في بيئة تحتكم إلى خوارزميات لا تعرف شيئًا عن الصدق ولا تكترث للضرر المحتمل؟ لنأخذ على سبيل المثال قضية نشر صور الضحايا في الحروب والكوارث. في الصحافة التقليدية، كان هذا خاضعًا لاعتبارات أخلاقية صارمة. أما في الصحافة الرقمية، فقد صار يُسوّق تحت عنوان "التفاعل الإنساني"، بينما هو في الحقيقة استغلال عاطفي.

في هذا السياق، لا يمكنني إلا أن أستحضر فضيحة موقع "BuzzFeed" سنة 2016، حينما اتُّهم بنشر أخبار مفبركة لضمان التفاعل، أو ما يُعرف ب

«clickbait journalism».  لقد مثّلت هذه الممارسات صفعة أخلاقية دفعت بعض المنصات إلى مراجعة سياساتها، لكن دون أن تغيّر منطق المنظومة نفسه. فالرأسمال الرقمي اليوم لا يقوم على الخبر، بل على الانطباع، ولا يقدّر الدقة، بل المكافأة التي تمنحها الخوارزمية.

من جهة أخرى، لا يمكننا أن نغفل الجانب الإيجابي الذي أتت به الصحافة الرقمية، من حيث إتاحة مساحة أوسع للتعددية والانفتاح وكسر احتكار الرواية المركزية، خاصة في المجتمعات القمعية. لقد استطاع الصحفيون المواطنون (citizen journalists) أن يكشفوا، من خلال هواتفهم، انتهاكات لم تكن لتخرج إلى العلن لولا منصات التواصل الاجتماعي. غير أن هذه القوة الأخلاقية سرعان ما أصبحت سلاحًا ذا حدين، إذ تحوّلت في كثير من الأحيان إلى فوضى معلوماتية، حيث تُدفن الحقائق تحت ركام الشائعات.

تقول شوشانا زوبوف في كتابها الشهير «عصر الرأسمالية الرقابية

 «The Age of Surveillance Capitalism» إن الصحافة أصبحت تُنتج ضمن نظام قائم على استخراج السلوك البشري من أجل تنبؤه والتحكم فيه، وليس من أجل إخبار الجمهور أو خدمته. وهو قول يضعنا أمام معضلة أخلاقية عميقة: هل ما زال الصحفي خادمًا للحقيقة أم صار عاملًا في مصنع السلوك الجماهيري؟

أنا لا أحنّ إلى الماضي بشكل رومانسي، ولا أظن أن الصحافة كانت طاهرة في كل عصورها. لكنني أؤمن أن العلاقة بين الصحفي والحقيقة يجب أن تكون أقوى من علاقته بالإعلان أو بالشبكة الاجتماعية. وهو ما يجعلني أعتقد أن المخرج لا يكمن في رفض الرقمنة، بل في تطوير أخلاقيات رقمية جديدة تكون مبنية على مبادئ الشفافية، وعدم الإضرار، والتوثيق، والتدقيق، والمساءلة.

لذلك، فإن معاهد الإعلام، ونقابات الصحفيين، والمنصات الكبرى، مطالبة اليوم بوضع مواثيق رقمية أخلاقية، تتجاوز الشعارات العامة إلى معايير تنفيذية واضحة، على غرار ما فعلته منصة "The Markup" الأمريكية، التي تعتمد على الشفافية الكاملة في مصادر تمويلها، وتفاصيل عملية التحرير، وحتى في الكود البرمجي المستخدم في تحقيقاتها.

في النهاية، أجد نفسي كصحفي وكقارئ في الآن ذاته، ممزقًا بين انبهاري بإمكانات التكنولوجيا، وخوفي على ضمير الصحافة من التآكل. ومع ذلك، أتمسّك ببصيص أمل بأن هناك صحفيين لا يزالون يؤمنون أن الخبر ليس سلعة، بل رسالة، وأن النقرات لا تساوي الحقيقة، وأن الضمير المهني ليس رفاهية بل ضرورة.

0 التعليقات: