لست بصدد كتابة افتتاحية إعلامية عادية، بل أطلق صرخة إنذار وسط هذا الليل الكثيف الذي تغرق فيه الجزائر. لقد حاولت أن أفهم، أن أبحث، أن أُمعن النظر في مآل بلدٍ ينحدر بسرعة مروعة نحو المجهول.
ما حدث يوم العاشر من يوليو 2025، لم يكن خبراً عابراً. إنه حدث رمزي كثيف الدلالة: الجنرال نصر الدين جون، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية (DGSI)، أُودع السجن بعد ثلاثة أيام من الاعتقال والتحقيق. هذا الرجل الذي ترأس أهم جهاز أمني في البلاد، المسؤول الأول عن مكافحة الإرهاب وحماية الأمن الوطني، انتهى به المطاف خلف القضبان، لينضم إلى قافلة طويلة من الجنرالات والمديرين والوزراء السابقين الذين يقبعون اليوم في الزنازين، بدلًا من مكاتب السلطة.
ما الذي يحدث في الجزائر؟
هل تحوّلت إلى دولة تُدار بالمحاكمات والانتقام السياسي بدلًا من المؤسسات والعقلانية؟
هل يُعقل أن يكون أغلب قادة الأجهزة الأمنية في السنوات الأخيرة قد مروا بالسجن، إما
قبل توليهم مناصبهم أو بعدها؟ كيف يمكن لوطنٍ أن يبني مستقبله في ظل هذا التآكل الداخلي؟
الجنرال حسن، الذي
خلف نصر الدين جون، هو الآخر كان سجينًا لسنوات قبل أن يُعاد تدويره في أعلى منصب أمني.
أما المسؤولون السابقون: من قادة الشرطة إلى قادة الدرك، ومن رؤساء المخابرات إلى وزراء
الدفاع، فجميعهم تقريبًا دخلوا السجن، أو ماتوا فيه كما حدث مع اللواء جمال حاج لعروسي.
هل هذه دولة طبيعية؟
هل يعكس هذا المشهد معايير دولة قانون أم أننا أمام منظومة سياسية تحوّلت فيها العدالة
إلى أداة تصفية حسابات لا أكثر؟
في دول العالم المحترمة،
تُبنى الثقة بين المؤسسات، وتُحترم سُمعة المسؤول حتى يثبت فساده بالدليل، أما في الجزائر،
فقد أصبح السجن هو الخاتمة الطبيعية لكل مسؤول حكومي أو أمني، مهما علت مرتبته. بل
صار من العادي أن تتقلد أعلى المناصب بعد أن تكون قد خرجت من زنزانة، وكأن السجن أصبح
شرطًا للترقية لا عائقًا لها!
أي مستثمرٍ أجنبي عاقل
سيغامر برأسماله في بلدٍ كهذا؟ كيف ستتعامل الدول الكبرى مع حكومة لا تعرف الاستقرار
المؤسسي؟ أمريكا، روسيا، فرنسا، الصين... هل يمكنها الوثوق بدولة يسجن مسؤولوها بعضهم
بعضًا؟ ما هي الرسالة التي نبعثها للعالم ونحن نحرق صورة أجهزتنا السيادية بأيدينا؟
الأدهى من ذلك، أن
هذا السقوط لا ينبع فقط من الفساد، بل من غياب الحد الأدنى من الثقة داخل السلطة ذاتها.
لم يعد هناك من يثق في أحد. الكل يراقب الكل. الكل يشك في نوايا الكل. كل مسؤول يخشى
أن يكون التالي على قائمة الاعتقال. كيف يمكن لمن يخاف على نفسه أن يحمي وطنًا كاملاً؟
حين يتم سجن رؤساء
المخابرات تباعًا، وحين يصبح الدخول إلى السجن شأناً دورياً لا استثناءً، فإننا أمام
حالة مرضية تتجاوز الحسابات السياسية أو القانونية، إلى أزمة بنيوية تهدد بقاء الدولة
ذاتها.
تحت حكم أحمد قايد
صالح، ظن البعض أن حملة الاعتقالات كانت مجرد ردة فعل استثنائية. غير أن ما بعده كشف
أن المسألة باتت عقيدة سياسية، وليست فقط سياسة مؤقتة. فالرئيس الحالي تبون، وقيادة
الجيش بزعامة شنقريحة، واصلوا هذا النهج دون توقف، حتى بات الحديث عن الإصلاح أو المحاسبة
بلا معنى.
نحن اليوم أمام أخطر
أزمة تعيشها الجزائر منذ الاستقلال: أزمة انهيار في البنية المؤسسية للدولة، أزمة انعدام
ثقة، أزمة كراهية متبادلة داخل النظام ذاته. دولة تعتقل كل من خدمها، وتنكل بكل من
صعد درجاتها، وتعيد إنتاج نفسها عبر وجوه منهكة سابقة كانت سجينة.
وهنا يكمن الخطر الحقيقي.
الخطر ليس في اعتقال نصر الدين جون أو سواه، بل في ما تعكسه هذه السياسة من هشاشة قاتلة.
دولة لا تحمي رموزها ولا تحترم مؤسساتها، هي دولة لا يمكن أن تحمي مواطنيها، ولا أن
تُقنع العالم بشراكتها.
نحن لا نبالغ. انظروا
إلى العراق، السودان، ليبيا، فنزويلا... دولٌ اختارت أن تسحق الداخل بذريعة حماية النظام،
فانفجرت من الداخل وتحولت إلى مسارح للدمار والانهيار.
نصر الدين جون لم يُعتقل
لأنه سرق. بل لأنه صار قوياً. لأنه جمع خبرةً ومكانة. لأنه أصبح تهديدًا محتملاً. هذا
هو منطق السلطة في الجزائر اليوم: كل من يبرز يُقصى، وكل من يُقصى يُجرجر إلى المحاكمة.
نحن في دوامة انتقامية بلا نهاية.
وفي غياب أي مشروع
حقيقي للعدالة، وفي ظل هذا النزيف المستمر في هيبة الدولة، فإن الجزائر تسير نحو عزلة
خارجية واحتقان داخلي لن يُطفأ بسهولة.
لقد قتلوا نصر الدين
جون، ولكنهم قتلوا معه مبدأ الثقة الذي لا تقوم أي دولة بدونه.
فليحفظ الله الجزائر،
قبل أن تلتهم ذاتها كاملة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق