الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، يوليو 18، 2025

هل تخوض الجزائر حرباً رقمية ضد فرنسا؟ ترجمة عبده حقي


في تطور جديد يزيد من تعقيد العلاقات المضطربة أصلاً بين الجزائر وفرنسا، كشفت صحيفة «لو كانار أنشينيه» الفرنسية المرموقة عن معطيات خطيرة تزعم تورط جهاز رسمي جزائري في إدارة حملة رقمية تهدف إلى زعزعة استقرار الدولة الفرنسية عبر الشبكات الاجتماعية. هذه الاتهامات غير المسبوقة تفتح الباب واسعًا أمام أزمة دبلوماسية قد تصل حد المواجهة العلنية، وربما تستدعي تحركات قانونية دولية.

التحقيق الذي نشرته الصحيفة في 15 يوليو 2025 أشار إلى أن "الجزائر تسلّح جيوشها الرقمية ضد فرنسا"، وأن جهازًا حكوميًا جزائريًا مرتبطًا بوزارة الدفاع والرئاسة كان وراء إنشاء مئات الحسابات المزيفة على وسائل التواصل، بهدف نشر محتوى موحد يروّج لنظريات مؤامرة ويدعو إلى حملات عدائية ضد مؤسسات وشخصيات فرنسية.

ويستند التقرير إلى وثيقة سرية صادرة عن هيئة فرنسية تُعرف باسم  Viginum ، وهي الجهة الرسمية المكلفة برصد ومكافحة التدخلات الرقمية الأجنبية. هذه الهيئة أُنشئت عام 2021 بقرار من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتخضع مباشرة لإشراف الأمانة العامة للدفاع والأمن القومي التابعة لرئاسة الحكومة الفرنسية، ما يمنحها بعدًا سياديًا حساسًا.

ووفقًا لتفاصيل الوثيقة، تم تسجيل أكثر من 4465 منشورًا، و55 فيديو على يوتيوب خلال عشرين يومًا فقط في ديسمبر 2024، تروّج كلها لفكرة وجود مؤامرة تقودها المخابرات الفرنسية (DGSE) ضد الجزائر. وتتحدث الوثيقة عن تزامن هذه المواد الرقمية وانتشارها من حسابات يُعتقد أنها جزء من شبكة موحدة تُدار من طرف جهة حكومية جزائرية هي "الهيئة الوطنية للوقاية من الجرائم المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات والاتصال".

ما يجعل القضية أكثر خطورة، هو أن هذه الهيئة التي يفترض بها أن تحمي الأمن السيبراني الجزائري، متهمة الآن بتوظيف أدواتها لإدارة حملات إلكترونية هجومية، لا دفاعية. وتكشف الصحيفة أن خوادم بريد إلكتروني تابعة لهذا الجهاز قد استُخدمت لنشر مواد ومحتويات تضليلية تستهدف فرنسا.

ولم تقتصر الحملة الرقمية على الأخبار المزيفة فحسب، بل اتخذت أيضًا أشكالًا أكثر استفزازًا، كصور مركبة تُظهر الرئيس الفرنسي ماكرون في وضعيات مهينة، وهجمات لفظية تستهدف مسؤولين فرنسيين كبارًا مثل برونو لو مير وإدوارد فيليب. بل وتشير الوثائق إلى محاولات لتأليب الرأي العام الجزائري ضد فرنسا من خلال تذكير جماعي بأحداث تاريخية دامية كحادثة 17 أكتوبر 1961.

المثير للدهشة أن الشبكة الرقمية نفسها سبق وأن استُخدمت لأغراض داخلية، حيث استهدفت الحراك الشعبي الجزائري في 2019 من خلال حملات تشويه ممنهجة ضد نشطائه. ويُعتقد أن هذه الشبكة كانت نشطة منذ 2014 واستُخدمت أولاً ضد المغرب، قبل أن تتحول لاحقًا إلى ساحة المواجهة الفرنسية.

أما عن الجهاز المسؤول عن هذه الحملة الرقمية – بحسب «لو كانار أنشينيه» – فقد أنشئ عام 2015 تحت إشراف الرئاسة الجزائرية ووزارة العدل، ثم انتقل لاحقًا بين وزارة الدفاع والرئاسة وفقًا لتقلبات السلطة. وهو يضم في هيكله ممثلين عن الأجهزة الأمنية، وممثلين عن القضاء، ويعمل بتنسيق مع أجهزة الاستخبارات الجزائرية بما فيها مديرية الأمن الداخلي ومديرية الاستخبارات العسكرية.

اللافت في هذا السياق هو التناقض في وظيفة هذا الجهاز، فهو من المفترض أن يكون حصنًا ضد الاختراقات الرقمية، لكنه – وفقًا للتقرير الفرنسي – تحول إلى منصة هجومية تستهدف أمن دولة أخرى.

ومن الناحية القانونية، فإن ما ورد في التقرير، إن ثبتت صحته، يشكل ««انتهاكًا صارخًا لسيادة دولة»« ويؤسس قانونيًا لما يمكن اعتباره "عملًا عدائيًا" أو حتى "حربًا رقمية". إذ أن الحرب الإلكترونية باتت اليوم معترفًا بها ضمن صنوف الحروب الحديثة، لما لها من قدرة على شل مؤسسات الدولة، وتأجيج الرأي العام، وإثارة الفوضى.

وفي ظل هذه المعطيات، يبرز سؤال محوري: هل ستقدم فرنسا على تصعيد دبلوماسي أو حتى قضائي ضد الجزائر؟ وهل ستلجأ إلى مجلس الأمن أو المحكمة الجنائية الدولية لتقديم شكاوى رسمية؟ إن الأمر لم يعد يتعلق بتكهنات إعلامية أو تسريبات معزولة، بل بوثائق رسمية من هيئة حكومية فرنسية حساسة.

من جهة أخرى، فإن الصمت الجزائري الرسمي تجاه هذه الاتهامات يثير كثيرًا من التساؤلات. فإذا كانت هذه الادعاءات عارية عن الصحة، فإن أقل ما يمكن توقعه هو نفي رسمي سريع ومقنع. أما التزام الصمت، فيبدو وكأنه إقرار ضمني، أو عجز عن الرد.

في نهاية المطاف، تبقى هذه القضية مرشحة للتطور في الأيام القادمة. وما لم تبادر الجزائر إلى توضيح موقفها، أو تفنيد ما ورد في التحقيق الفرنسي بدقة، فإن علاقاتها مع باريس مرشحة لمزيد من التدهور، في لحظة حساسة تمر بها منطقة المغرب العربي، وأوروبا، والعالم.

إنها لحظة اختبار حقيقي للدبلوماسية الجزائرية، ولسلوكها في الفضاء الرقمي الدولي.

0 التعليقات: