الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، يوليو 18، 2025

قراءة تحليلية في كتاب "حلقة الدوبامين: لماذا لا يمكننا تسجيل الخروج" ترجمة عبده حقي


يُعد كتاب «The Dopamine Loop: Why We Can’t Log Off» " حلقة الدوبامين: لماذا لا نستطيع تسجيل الخروج؟ " من الأعمال الحديثة التي تتناول تأثير التكنولوجيا على السلوك البشري من منظور علم الأعصاب، حيث يستعرض فيه مؤلفه وهو غالباً ما يكون عالِم أعصاب أو باحث في السلوك المعرفي كيف أصبحت التطبيقات، ووسائل التواصل، وحتى الألعاب الإلكترونية، أدوات متقدمة لاستغلال نقطة ضعف مركزية في الدماغ البشري: الدوبامين.

يقوم الكتاب على أطروحة محورية مفادها أن السلوك الرقمي الحديث، وعلى رأسه "الإدمان على الهاتف الذكي"، لا يمكن فهمه بشكل كامل دون الرجوع إلى فهم كيفية عمل نظام المكافأة في الدماغ، لا سيما ما يُعرف بـ"حلقة الدوبامين" (Dopamine Loop). الدوبامين، الذي لطالما اعتُبر "هرمون السعادة"، ليس كما يشاع مجرد ناقل عصبي يسبب المتعة، بل هو في الواقع مسؤول عن "التوقّع" والتحفيز أكثر مما هو عن الشعور الفوري بالسعادة. وهذا الفارق الدقيق هو ما يستغله مصممو التطبيقات الرقمية لتغذية الاستهلاك المستمر للمحتوى.

يقدم الكتاب قراءة علمية دقيقة لهذا المفهوم، مع تدعيمه بأمثلة من الواقع الرقمي اليومي: الإشعارات المتكررة، "الإعجابات" على المنشورات، نظام الجوائز في الألعاب، كلها محفزات صغيرة تُفعّل نظام المكافأة في الدماغ دون أن تُشبع رغباتنا بالكامل، ما يدفعنا للبقاء عالقين في حلقة من التوقّع المتجدد. يقول الكاتب: "نحن لا نسعى للمتعة التي نحصل عليها، بل للمتعة التي نعتقد أننا على وشك الحصول عليها." وهنا تكمن خطورة الحلقة.

اللافت في الكتاب أنه لا يكتفي بالتشخيص البيولوجي، بل يتوسع إلى تحليل أعمق حول كيف أصبح هذا النمط من السلوك الرقمي محكوماً بمنطق اقتصاد الانتباه

(Attention Economy).  فشركات التكنولوجيا العملاقة لا تُصمم تطبيقاتها بهدف الترفيه البريء فحسب، بل لبناء منظومات نفسية قابلة للإدمان، تضمن تدفقاً دائماً لبيانات المستخدمين، ومن ثم تدرّ أرباحاً طائلة من الإعلانات والمحتوى الموجه. وهكذا يتحول الإنسان من "مستخدم" إلى "مُستَخدَم"، ومن "مستهلك" إلى "منتج للبيانات".

يتخذ الكتاب طابعاً تأملياً في بعض فصوله، حين يتساءل عن حدود الإرادة الحرة في عصر التفاعل الدائم، وعن ما إذا كنا نعيش فعلاً في زمن "الاختيار الذاتي"، أم أننا مجرد تروس داخل آلة معقدة تعمل على تحفيز الدوبامين لدينا لأغراض تجارية. يستحضر المؤلف في هذا السياق أفكاراً لفلاسفة مثل ميشيل فوكو حول الضبط والرقابة، ليقترح أن الإدمان الرقمي المعاصر ليس فقط ظاهرة بيولوجية، بل أيضاً أداة سلطوية مغلفة بالمتعة.

من الناحية الأسلوبية، يتميز الكتاب بلغة سلسة تربط بين العلم المعرفي والسلوك اليومي دون أن تقع في فخ التبسيط المخل. يعرض المؤلف دراسات وتجارب معملية حول الدوبامين، ثم يسحب النتائج على مشاهد مألوفة: لحظة التحقق من الهاتف أثناء العشاء، أو الانزلاق في دوامة الفيديوهات القصيرة لساعات دون وعي.

ومع ذلك، لا يخلو الكتاب من بعض الثغرات. فالبُعد الثقافي والاجتماعي غائب نسبياً في مقابل التركيز على الدماغ والسلوك الفردي. لم يحاول المؤلف، على سبيل المثال، تحليل كيف تختلف أنماط استهلاك التكنولوجيا بين المجتمعات أو الفئات العمرية، أو كيف تلعب الثقافة دوراً في تشكيل علاقة الأفراد بالتقنيات. كما أن الحلول المقترحة في نهاية الكتاب تبدو عامة: تقليل استخدام الهاتف، إغلاق الإشعارات، اعتماد فترات "ديتوكس رقمي"، دون التعمق في الآليات السياسية والتشريعية التي يمكن أن تضبط شراسة التصميم الإدماني للتطبيقات.

رغم هذه الملاحظات، يظل كتاب «The Dopamine Loop» كتاباً ضرورياً في زمن طغت فيه السرعة على التأمل، وتقلصت فيه لحظات الصمت لصالح أصوات الإشعارات. إنه دعوة لفهم أنفسنا لا بوصفنا كائنات رقمية فقط، بل ككائنات بيولوجية أيضاً، ما تزال محكومة بكيمياء بدائية لم تتغير منذ آلاف السنين، لكنها تُستغل اليوم في بيئة رقمية فائقة التعقيد.

في النهاية، يتركنا الكتاب أمام تساؤل مقلق: إذا كان إدراكنا بأننا ضحايا حلقة الدوبامين لا يكفي لكسرها، فهل هناك حقاً مخرج من هذه الحلقة؟ وهل نحن مستعدون لتقليص الاعتماد على الأجهزة التي باتت تلعب دور الامتداد العصبي لأنفسنا؟ لعل أول خطوة، كما يلمّح المؤلف، أن نتوقف عن الاستسلام لتلك "النقرة التالية".

0 التعليقات: