لم يعد النص الأدبي، في زمن الوسائط التفاعلية، مجرد حبر على ورق أو كلمات تتراصف في خط مستقيم من بداية إلى نهاية. لقد تخلّى النص عن خصوصيته الخطية وتحوّل إلى كيان شبكي ينبض بالحياة عبر التفاعل، يطلب من قارئه أن يكون مشاركاً لا متلقياً سلبياً. في هذا التحول الجوهري، تتداخل مفاهيم الجمال، التقنية، والتلقي، لتعيد تشكيل معنى "النص" كما عرفناه قروناً طويلة.
النص التفاعلي هو لقاء بين الأدب والتكنولوجيا، بين البنية السردية والبرمجيات، حيث يغدو "الشكل" نفسه جزءاً من "المعنى"، وتتحول "الوظيفة" إلى لعبة متبادلة بين المؤلف والقارئ، أو بين الإنسان والآلة. هذا الشكل الجديد من النصوص يذكّرنا بما طرحه "رولان بارت" في مقاله الشهير "موت المؤلف"، إذ يتحرر النص من سلطوية الصوت الواحد، ليفسح المجال أمام قراءات لا نهائية ومتعددة المسارات.
في بنية النص التفاعلي،
لا يُقدّم المعنى دفعة واحدة، بل يتكشف تدريجياً حسب مسار القارئ، كأنما النص نفسه
يولد مع كل نقرة، وكل اختيار، وكل قفزة في الفضاء الرقمي. هذا التفاعل لا يقتصر على
بنية النص، بل يمتد إلى زمن القراءة ونمط التلقي؛ فالقارئ في هذه الحالة أقرب إلى
"اللاعب"، كما وصف "إسبن آرسيت" في كتابه :
«Cybertext:
Perspectives on Ergodic Literature»، " النص الإلكتروني: وجهات نظر حول الأدب الإرغودي
" حيث يتحمل مسؤولية جزئية عن خلق التجربة الجمالية والمعرفية.
ويطرح النص التفاعلي
سؤالاً حول جماليات التلقي، لا بوصفه مجرد متعة أدبية، بل كفعل إدراكي يتشكّل عبر وسائط
متعددة: النص، الصورة، الصوت، وأحياناً حتى الحركات الجسدية للمستخدم. إننا هنا بإزاء
نصوص لا تُقرأ فقط، بل تعاش. وقد استثمرت أعمال كثيرة هذه الإمكانيات مثل رواية "Patchwork
Girl" " فتاة مرقعة " لشللي جاكسون، التي تستخدم بنية تشظّية غير خطية تسمح
للقارئ بتجميع المعنى كما تُجمّع أطراف الجسد الممزق، في تماهٍ بين الشكل والمضمون.
أما من حيث الوظيفة،
فإن النص التفاعلي لا يكتفي بالسرد أو التوصيل، بل يتحول إلى أداة لتأمل العالم، أو
لإعادة بنائه افتراضياً. تتجلى هذه الوظيفة في الألعاب السردية التفاعلية، حيث تُستخدم
الخوارزميات والذكاء الاصطناعي لتوليد تجارب شخصية لكل قارئ. ففي هذه الحالات، تصبح
البرمجيات ليست مجرد وسيط، بل شريكاً إبداعياً، يعيد تعريف حدود التأليف ذاتها، كما
ناقشت شوشانا زوبوف في كتابها :
«The
Age of Surveillance Capitalism،
" عصر رأسمالية المراقبة " إذ تحذّر من
هيمنة التقنية على السلوك البشري بما في ذلك التلقي الفني.
أما عن تدفّق المعنى،
فهو في النص التفاعلي أشبه بنهر متعدد الجداول؛ كل مسار قد يحمل دلالة مختلفة، وكل
انحراف عن المسار الرئيسي قد يفضي إلى معنى مغاير أو تجربة سردية فريدة. هذا التدفق
غير الخطي يعيدنا إلى أعمال "بورخيس" و"كالفينو" التي مهّدت لهذا
النوع من الكتابة قبل حلول الوسيط الرقمي، حين تخيّلا نصوصاً لها مداخل لا تُحصى، ونهايات
تتغير حسب مسار التلقي.
في النهاية، لا يمكن
النظر إلى النص التفاعلي إلا بوصفه تجلياً لجماليات جديدة، تتجاوز حدود الصفحة المطبوعة،
وتدخلنا إلى مختبر سردي مفتوح، حيث الشكل هو الوظيفة، والتلقي هو الخلق، والمعنى ليس
معطى جاهزاً، بل عملية متغيرة، قابلة للتشكيل، بل وقابلة لإعادة الكتابة على يد القارئ
ذاته. هذه هي جماليات النص التفاعلي: فن لا يكتمل إلا إذا اشترك فيه أكثر من مؤلف،
وأكثر من عقل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق