الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يوليو 12، 2025

الكتابة التشاركية في الفضاء الرقمي: ولادة النص من رحم الجماعة: ترجمة عبده حقي


برزت الكتابة التشاركية كأحد أبرز ملامح التحول الرقمي في الثقافة المعاصرة. لم تعد الكتابة حكرًا على فرد ينسج المعنى في عزلة، بل صارت ممارسة جماعية تنفتح على إمكانيات غير محدودة، حيث تتداخل الأصوات وتتعدد وجهات النظر، في نسيج نصي يتشكّل ديناميكيًا من مساهمات متعددة. هذه الظاهرة تعكس، بشكل عميق، التحول من "النص المغلق" كما صوّره رولان بارت إلى "نص مفتوح" تنكسر فيه الحدود بين المؤلف والمتلقي.

الكتابة التشاركية في الفضاءات الرقمية ليست مجرد تبادل لأفكار أو آراء عبر منصة إلكترونية، بل هي فعل إبداعي جماعي، تتداخل فيه التكنولوجيا مع أشكال التعبير المختلفة لإنتاج نصوص تتسم بالمرونة والانسيابية. المنصات مثل ويكيبيديا، جيت هاب، وريديت، أو حتى أدوات المعالجة التعاونية مثل غوغل دوكس، تُظهر كيف أصبح "المؤلف الجمعي" حقيقة لا مجرد مجاز. هذا ما أشار إليه هنري جنكينز في نظريته حول "الثقافة التشاركية"، حيث لم يعد الجمهور مستهلكًا سلبيًا للمحتوى، بل مساهمًا في إنتاجه، بل وصانعًا أحيانًا لهويته وسياقه.

ويأخذ هذا التحول أبعادًا جمالية ومعرفية تتجاوز الشكل إلى المضمون. في الكتابة الرقمية التعاونية، يتجاوز النص الفردي سلطته التقليدية، ويُفسح المجال أمام سرد متعدد الأصوات. إنها تجربة أقرب إلى "الكتابة الشبكية" التي تحدث عنها جورج لانداو، حيث يصبح كل مساهم بمثابة "عقدة" في شبكة سردية متداخلة، تتغير بنيتها مع كل تعديل أو إضافة.

ولعل أهم ما تتيحه هذه البيئات هو "إعادة توزيع السلطة". لم يعد الناشر أو الأكاديمي أو الكاتب المخضرم هو المتحكم الوحيد في سرديات المعرفة. بل أصبح بإمكان أي مستخدم أن يساهم، يعدّل، ويقترح، مما يفتح المجال أمام ديمقراطية معرفية جديدة، وإن كانت محفوفة بمخاطر الفوضى المعلوماتية، والانحيازات الخفية في خوارزميات التعديل والمراجعة.

إن البعد التربوي للكتابة التشاركية لا يقل أهمية. فطلاب الجامعات باتوا يستخدمون المنصات التعاونية لكتابة مقالاتهم وأبحاثهم في بيئة تشجع على تبادل المعرفة وتعدد زوايا النظر. في هذا السياق، تحدث باولو فريري عن "التعليم الحواري" بوصفه السبيل الأمثل لبناء معرفة حقيقية، وهو ما تجسده اليوم هذه الأدوات الرقمية التشاركية، حيث لا يتعلم الفرد فقط من المعلّم، بل أيضًا من أقرانه، ومن الممارسة التفاعلية ذاتها.

غير أن هذه الكتابة التشاركية تطرح تحديات قانونية وأخلاقية، لا يمكن تجاهلها. من يملك حقوق تأليف النص؟ من المسؤول عن الخطأ أو التضليل؟ وهل تظل قيمة "الملكية الفكرية" قائمة في زمن تتفتّت فيه حدود المؤلف؟ هذه الأسئلة تُعقّد مفهوم "حقوق النشر"، وتفرض إعادة نظر جذرية في البنية القانونية التي كانت تحكم النشر التقليدي.

ومن زاوية إعلامية، فإن صعود صحافة المواطن والمنصات التشاركية مثل ويكيبيديا أو ميديون يعيد تشكيل العلاقة بين الخبر والجمهور. في حالات الكوارث أو الأزمات السياسية، يكون للمستخدمين دور حاسم في نقل الخبر، تصحيحه، وربما حتى إنتاج رواية بديلة تُنافس الرواية الرسمية. وهو ما أشار إليه كلاي شيركي في كتابه "Here Comes Everybody"، "هنا يأتي الجميع " حيث يرى أن التنظيم الاجتماعي القائم على أدوات رقمية يخلق مجتمعات معرفة جديدة تتجاوز القيود المؤسساتية التقليدية.

وفي النهاية، تبدو الكتابة التشاركية في الفضاء الرقمي أشبه بمرآة تعكس تحوّلًا عميقًا في الوعي الثقافي المعاصر. لم تعد الذات الكاتبة محورا أوحدًا للمعنى، بل أصبحت واحدة من بين أصوات عديدة تساهم في بناء النص. إنها كتابة تتنفس الجماعية، وتتغذى على التفاعل، وتنتج عوالم سردية مفتوحة على المستقبل.

لقد انتقلنا من "أنا أكتب، إذن أنا موجود" إلى "نحن نكتب، إذن نحن نكوّن المعنى". وفي هذا التحول، يكمن الأمل في إعادة تصور الإبداع بوصفه فعلًا جماعيًا، لا يُلغى فيه الفرد، بل يُعاد تشكيله في ضوء المشاركة.

0 التعليقات: