في خضم التحولات التكنولوجية المتسارعة، لم تعد غرف الأخبار كما عهدناها من قبل: أماكن مغلقة، مشحونة برائحة الورق، تدبّ فيها خطوات المحررين ومراسلات الهاتف الأرضي. بدلاً من ذلك، ولدت غرف جديدة على الشاشة، لا تحدها جغرافيا، ولا تخضع لتراتبية صلبة. هذه "الغرف" الرقمية، أو بالأحرى هذه الفضاءات السيبرانية، لا تُعيد فقط تشكيل المهنة، بل تفتح أيضاً نقاشاً حقيقياً حول قضية التنوع، بما يشمله من تعدد الأعراق، واللغات، والهويات الجندرية، والانتماءات الثقافية.
لقد أرست الصحافة الرقمية
نمطاً جديداً في صناعة الأخبار يقطع مع هيمنة النخب الإعلامية التقليدية، ويمكّن فئات
طالما كانت مهمّشة أو مغيّبة من دخول الحلبة. فكما يشير الباحث «مارك دوز في كتابه "Media Life" (2011)، "الحياة
الإعلامية" فإن الصحافة الرقمية لا تخلق بيئة إعلامية جديدة فحسب، بل تُرغم المؤسسات
على التكيّف مع "مجتمع الوسائط المتعددة"، حيث الفرد أصبح أيضاً فاعلاً إعلامياً.
لكن هذا التحول لا
يخلو من مفارقات. ففي الوقت الذي وسّعت فيه الصحافة الرقمية الهوامش أمام طيف واسع
من الأصوات، برزت تحديات هيكلية تقوّض وعود التنوع. من أبرزها ما يسمى بـ"تأثير
الخوارزميات"، حيث باتت الشركات الكبرى، مثل فيسبوك وغوغل، تتحكم بخوارزميات التوزيع
والانتشار، ما يفضي غالباً إلى إقصاء المحتوى غير المتوافق مع المعايير الربحية أو
الجماهيرية. في هذا السياق، يُمكننا استحضار دراسات معهد «Reuters Digital News Report» " تقرير رويترز الإخباري الرقمي " التي
كشفت أن التحيزات الخوارزمية قد تعزز "الفقاعات الإعلامية"، وتحد من الوصول
إلى أصوات الأقليات أو القضايا غير الرائجة.
تجدر الإشارة إلى أن
بعض المنصات الإعلامية المستقلة حاولت مقاومة هذا الاتجاه. مثال على ذلك تجربة موقع
«The 19th News،
الذي تأسس في الولايات المتحدة بهدف تغطية القضايا من منظور نسوي وتعددي، وسعى إلى
إشراك الصحفيات من خلفيات متنوعة، وتوفير مقالات مجانية ومفتوحة المصدر للجمهور.
في المغرب والعالم
العربي، يمكن الاستشهاد بمبادرات مثل «مراسلون» و»درج»، التي اعتمدت أساليب السرد الرقمي
لتسليط الضوء على قضايا الهجرة، والتمييز، والعدالة الاجتماعية، مستفيدة من الطبيعة
الأفقية للمنصات الرقمية.
ومع ذلك، لا يزال الطريق
إلى التنوع الحقيقي داخل غرف الأخبار الرقمية محفوفاً بالقيود، وأولها ما يمكن تسميته
بـ"الليبرالية الشكلية"، حيث يكتفي بعض الفاعلين الإعلاميين بإدراج أصوات
"مختلفة" دون تمكين حقيقي لها داخل آليات التحرير واتخاذ القرار. بمعنى آخر،
لا يكفي أن يظهر صحفي أسود أو امرأة محجبة في الواجهة، بل المطلوب هو تغيير بنية السلطة
داخل المؤسسة ذاتها، كما تذهب إلى ذلك الكاتبة نيامانلاب في مقالاتها المتخصصة في مستقبل الصحافة.
إلى جانب البنية المؤسساتية،
تبقى مسألة التمويل المستقل حاسمة في تعزيز التنوع. فالإعلام الرقمي الذي يتغذى على
الإعلانات قد يفضّل التوجه نحو المواضيع "الرائجة"، متجاهلاً تلك التي تمس
الأقليات أو تفضح أنظمة الهيمنة. ولهذا بدأت بعض المؤسسات تفكر في نماذج بديلة للتمويل
مثل الاشتراكات، أو الشراكة مع مؤسسات مدنية، لضمان استقلالية خطها التحريري وتعدديته.
ولأن الصحافة الرقمية
تتقاطع مع وسائط متعددة (النص، الصوت، الصورة، الفيديو، الواقع المعزز)، فإنها تتيح
كذلك طرقاً جديدة في تمثيل التنوع. فبدلاً من التقرير المكتوب، يمكن إنتاج سلسلة بودكاست
بلغات محلية، أو فيلم وثائقي تفاعلي يتيح للمستخدم التفاعل مع شخصيات القصة، أو حتى
قصص معززة بالذكاء الاصطناعي تراعي الخلفية الثقافية للقارئ. وهكذا، تصبح التكنولوجيا
وسيلة لاختراق المركزية الإعلامية، لا لتكريسها.
في نهاية المطاف، لا
يمكن الحديث عن تنوع حقيقي في غرف الأخبار الرقمية دون استحضار السياق السياسي والاجتماعي
لكل بلد. ففي دول تعاني من قمع الحريات أو رقابة صارمة، يصبح التنوع التحريري تحدياً
مضاعفاً، بل ضرباً من المقاومة. وهنا يظهر دور المنصات العابرة للحدود التي تتيح للصحفيين
في الجنوب العالمي المشاركة في النقاش العالمي دون المرور عبر "بوابة" الغرب.
إن الصحافة الرقمية
ليست فقط تطوراً تقنياً، بل لحظة سياسية وثقافية فارقة تتيح – إذا ما استُثمرت بعناية
– قلب موازين التمثيل داخل المجال الإعلامي. لكنها في الوقت ذاته، إن تُركت لعواصف
السوق والخوارزميات، قد تتحول إلى نسخة لامعة من التهميش القديم.
««المراجع»
« Deuze, Mark. «Media Life», Polity Press, 2011.
« Reuters Institute. «Digital News Report», University of
Oxford, 2023.
« NiemanLab. “Diversity is More Than a Face,” Harvard
University.
« The 19th News:
[https://19thnews.org](https://19thnews.org)
« موقع درج:
[https://daraj.media](https://daraj.media)
« موقع مراسلون:
[https://www.marsad.ma](https://www.marsad.ma)
.jpg)
0 التعليقات:
إرسال تعليق