الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، يوليو 22، 2025

إضرابات عن الطعام في السجون الجزائرية: عبده حقي


في قلب المؤسسة العسكرية الجزائرية، حيث يُفترض أن تسود الانضباطات الصارمة والتراتبية الصلبة، تتكسر اليوم كل القواعد. سجن البليدة العسكري أصبح، مرة أخرى، مسرحًا لاحتجاجات صامتة بصوت الجوع، إذ دخل عدد من كبار الضباط في إضراب مفتوح عن الطعام احتجاجًا على ما يصفونه بـ"الاعتقال التعسفي" و"المحاكمات السياسية" و"التصفية داخل المؤسسة العسكرية". لسنا أمام حدث معزول، بل أمام تكرار مأساوي لمشهد سبق أن عُرض في يناير 2023، حين خاض عدد من الجنرالات السابقين الإضراب ذاته، وانتهى بعضهم إلى مقابر النسيان.

بين هؤلاء المحتجين، أسماء بارزة بحجم الجنرال إسماعيل فني، الذي شغل حتى وقت قريب منصب المدير العام للمخابرات التقنية  (DGRT)، وهي واحدة من أقوى ثلاث مؤسسات استخباراتية في الجزائر. رجل تولى الإشراف على التجسس الإلكتروني، ومراقبة الاتصالات المدنية والعسكرية، والتصدي للهجمات السيبرانية، وجد نفسه في نهاية عام 2023 معتقلًا، ليُدان في العام التالي بعشرين عامًا من السجن دون أن يسمع أحد بتفاصيل محاكمته أو يُعرف سبب اعتقاله.

كما انضم إلى هذا الإضراب أيضًا العقيد بالام باس، القنصل السابق في أليكانتي الإسبانية، والذي يُعتقد أنه دفع ثمن اصطفافه ضمن تيار خاسر في معركة النفوذ داخل المؤسسة العسكرية. ومن بين المحتجين كذلك مدنيون، كسجين الرأي نور الدين ختيل، الذي وُضع في سجن عسكري رغم كونه لا ينتمي إلى أي مؤسسة نظامية، إلى جانب الأخوين بوصار: أحدهما ضابط في جهاز المخابرات والآخر مجرد شرطي. كلاهما يُحاكم بتهمة "التآمر ضد سلطة الدولة" ونقل "معلومات أمنية إلى نشطاء في الخارج".

لكن الأخطر، هو ما كشفته هذه الإضرابات من تفكك داخلي عميق في هرم الجيش، وعودة ما يشبه "حرب الأجنحة" بين كبار الضباط وأطراف في الرئاسة، أبرزها الجنرال سعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش، الذي أصبح اسمه يطغى على أي حديث عن تصفية الحسابات داخل المؤسسة. فكل من ينتقده – حسب العديد من الشهادات – يجد نفسه متهمًا بالفساد أو التخابر أو التآمر، وحتى إن لم يُحاكم، يُترك في الزنازين معلقًا بين الحياة والموت، كما حدث مع الضابط بن ونيّرة، الذي حُكم عليه بالإعدام، بسبب تسريبات تتهم شنقريحة والمقربين منه بالفساد المالي.

إن ما يُقال عن عشرات الضباط – بل أكثر من 250 – بين جنرالات، وعقداء، ومدراء مركزيين، قد زُجّ بهم في السجن منذ إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات عام 2015، ليس إلا رأس جبل الجليد. الملف برمّته غارق في صمت رسمي مطبق، وفي غياب أي رقابة مدنية أو إعلام حر قادر على كشف الحقيقة. هذا الغموض، وهذه المحاكمات المغلقة، تؤسس لعدالة انتقامية لا تمت بصلة إلى دولة قانون. فالعدالة، كما يقول مونتسكيو، لا بد أن تكون مرئية لكي تُحترم، وإذا غابت عن الأنظار أصبحت مجرد أداة قمع.

الأدهى، أن ما يجري لا يطال العسكريين فحسب، بل امتد إلى ذويهم. إذ سُجِن أبناء الجنرالات لمجرد قرابتهم، وتعرضت زوجاتهم وأمهاتهم لضغوط اقتصادية وصلت حدّ حرمان الأطفال من المعاشات التقاعدية. إننا أمام عقاب جماعي معلن، يُمارس تحت غطاء “العدالة العسكرية”، لكن حقيقته تفضحها الوقائع المتراكمة.

في خضم هذا المشهد الكابوسي، برزت روايات عن مفاوضات سرية بين السلطات وبعض المنفيين، كالعقيد الهارب بوصار، والذي طُلب منه العودة مقابل إطلاق سراح شقيقه. هذه المساومات لا تشير إلى وجود قضاء مستقل، بل إلى عقلية "الرهائن"، حيث يُحتجز الأفراد كورقة تفاوض سياسية، وهو أمر يُخرج العدالة من مجالها إلى دائرة الابتزاز.

من جهة أخرى، تتكشف هذه الوقائع عن أزمة عميقة في البنية الأمنية الجزائرية: لا أحد يعرف من يُحاكم ولماذا، ولا أحد يعلم ما إذا كانت الاتهامات مدعومة بأدلة أم مجرد وسيلة لإسكات الصوت المعارض. فإذا كانت هذه الاعتقالات قد تمت بناءً على تهم جدية، فلماذا لا يُقدَّم المعتقلون للمحاكمة العلنية؟ وإذا لم توجد أدلة، فلماذا استمرار سجنهم إلى أجل غير مسمى؟

الإضرابات المتكررة عن الطعام في سجن البليدة ليست سوى أعراض مرئية لمرض خفي ينهش جسد الدولة: غياب الثقة في العدالة، والانقسام الحاد داخل المؤسسة العسكرية، وهيمنة منطق “الولاء” على منطق “الكفاءة”، وتغوّل الأجنحة المتصارعة على حساب هيبة القانون. هذه الأعراض تنذر بانفجار قادم، إن لم يُواجه الملف بشفافية وجرأة، بعيدًا عن خطاب التخوين وتبريرات “الحرب ضد المتآمرين.

الجزائر اليوم ليست بحاجة إلى مزيد من الصمت، بل إلى مساءلة جريئة، إلى مؤسسة قضائية مستقلة تفرق بين العدل والانتقام، إلى شجاعة سياسية توقف هذه المحاكمات السرية وتُفرج عن المدنيين الذين زُجّوا في السجون العسكرية دون مبرر. لأن ترك الأمور على حالها، لا يهدد فقط حقوق الأفراد، بل وحدة الدولة نفسها.

في النهاية، لا بد من طرح السؤال الجوهري: هل نحن أمام عدالة... أم أمام آلة سياسية تسحق من لا يُجيد الانحناء؟

0 التعليقات: