تشهد العلاقات بين فرنسا والجزائر هذه الأيام منعطفًا خطيرًا، قد يكون من بين أشد مراحل التوتر في تاريخ البلدين. فبعد أشهر من الترقب والرهان على تهدئة مرتقبة من الطرف الجزائري، قررت الحكومة الفرنسية، ممثلة في وزير الداخلية برونو روتايو، الانتقال من خطاب التحذير إلى خطوات عملية صارمة تُنذر بمواجهة مفتوحة.
أسباب هذا التصعيد كثيرة، لكن أبرزها يتمثل في مواصلة السلطات الجزائرية احتجاز الكاتب بوعلام صنصال، واعتقال الصحفي الفرنسي كريستوف غليز بتهمة "تمجيد الإرهاب"، وهي تهم أثارت سخطًا واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية بفرنسا، حيث اعتُبر الأمر بمثابة إهانة متعمدة للدولة الفرنسية ومواطنيها.
في خضم هذا الغضب المتزايد، وجّه وزير الداخلية الفرنسي تعليمات صارمة إلى مختلف الإدارات الإقليمية بوقف تجديد تصاريح الإقامة لنحو خمسة عشر طالبًا جزائريًا، معظمهم أبناء أو أقارب مسؤولين رفيعي المستوى في الدولة الجزائرية، من بينهم ابنة كمال سيدي سعيد، المستشار المقرب من الرئيس عبد المجيد تبون. وتمتد هذه الإجراءات لتشمل أقارب وزراء وجنرالات في أجهزة الأمن والمخابرات.
هذه الخطوة، التي تُعد سابقة في تعامل فرنسا مع الجزائر، تعبّر عن تحوّل جذري في السياسة الفرنسية تجاه ما تعتبره "نفاقًا جزائريًا"، حيث لا يتورع مسؤولون جزائريون عن مهاجمة فرنسا وخطابها الاستعماري نهارًا، بينما يرسلون أبناءهم للدراسة أو الاستشفاء في باريس ليلًا.
ورغم أن هذه الإجراءات تمس أفرادًا لا علاقة لهم مباشرة بالقرارات السياسية – وهم غالبًا شباب في مقتبل العمر جاؤوا لتحصيل علمي – فإن السلطات الفرنسية تراها ضرورية لوضع حد لما تعتبره سياسة ابتزاز تمارسها الجزائر. وكما صرّح روتايو سابقًا لصحيفة "لوفيغارو"، فإن "دبلوماسية النوايا الحسنة لم تعد مجدية"، وأنه حان وقت فرض "ميزان قوى جديد".
لكن هذا التصعيد لا يقف عند حدود الطلبة. فقد كشفت تقارير صحفية، من بينها ما نشرته مجلة "باريس ماتش"، عن إعداد قائمة تضم 44 شخصية جزائرية بارزة، تشمل وزراء ومسؤولين عسكريين وأمنيين، ستُمنع من دخول فرنسا أو العبور عبر أراضيها، حتى وإن كانت بحوزتهم أوامر مهمة رسمية. وتشير المعلومات إلى أن هذه القائمة مرشحة للاتساع لتشمل ما يصل إلى 80 شخصية.
وتتزامن هذه الإجراءات مع قرارات سابقة اتخذتها الجزائر منذ بداية عام 2025، تمنع من خلالها مسؤوليها وموظفي شركاتها الحكومية من التوجه إلى فرنسا أو المرور عبر مطاراتها، في إطار ما تسميه حماية السيادة الوطنية. غير أن باريس ترى في ذلك مراوغة هدفها منع الاحتكاك الشعبي بخطورة تدهور العلاقات.
من الجدير بالذكر أن العلاقات الفرنسية الجزائرية شهدت انفراجًا مؤقتًا في يونيو الماضي، عقب آمال عُلّقت على مبادرات تهدئة من الجانب الجزائري، لكن سرعان ما تلاشت تلك الآمال مع رفض الإفراج عن صنصال واعتقال غليز، ما اعتُبر طعنة في مسار الحوار.
المفارقة الكبرى تكمن في أن الأزمة، التي بدأت كخلاف دبلوماسي، باتت تؤثر الآن في فئات لا علاقة لها بصنع القرار، من طلاب ومثقفين وحتى رجال أعمال. وفي ظل هذا التصعيد المتبادل، يُخشى أن تترسخ القطيعة ويُغلق باب الحوار، خاصة مع تصاعد الخطاب العدائي من الطرفين.
صحيح أن أبناء المسؤولين الجزائريين لا يتحملون وزر السياسات الرسمية، لكن الواقع أن امتيازاتهم التعليمية والمالية في فرنسا لم تكن ممكنة لولا ارتباطهم بمراكز القرار في الجزائر. وفي المقابل، يُطرح التساؤل ذاته حول احتجاز صحفي فرنسي لا يشغل منصبًا رسميًا، في خضم هذا التصعيد المتبادل.
ما يحدث بين باريس والجزائر اليوم هو أكثر من مجرد أزمة دبلوماسية. إنها حرب رموز ورسائل سياسية، تعكس تدهور الثقة وانسداد الأفق بين ضفتي المتوسط. وإذا لم يُعاد إحياء صوت الحكمة، فإن الجانبين يسيران نحو قطيعة شاملة، قد تطال ما تبقى من جسور التعليم والثقافة والتبادل الإنساني، وهو الثمن الأبهظ في هذا الصراع المتنامي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق