الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أغسطس 15، 2025

المغرب في مرآة عصره من الاستقلال إلى نهاية عهد الحسن الثاني: (1) ملف من إعداد عبده حقي


منذ حصول المغرب على استقلاله سنة 1956، وجد نفسه في قلب تحولات سياسية متسارعة، لم تكن داخلية فحسب، بل تشابكت مع العواصف التي هزّت العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فقد تزامن مسار بناء الدولة المغربية الحديثة مع صعود المد القومي العربي، وبروز الصراع العربي–الإسرائيلي، وتوالي الانقلابات العسكرية في أكثر من عاصمة عربية، وانفجار ثورات وحروب غيرت موازين القوى الإقليمية.

لم يكن المغرب بعيداً عن هذه الزلازل السياسية؛ بل كان في أحيان كثيرة طرفاً فاعلاً أو متأثراً مباشرة بها. فحرب 1967 وهزيمة الجيوش العربية، ثم إحراق المسجد الأقصى، تركتا أثراً عميقاً في الوعي السياسي المغربي، وساهمتا في تعزيز موقع القضية الفلسطينية داخل الخطاب الرسمي والمعارض. كما أن الانقلابات في سوريا وليبيا، وحرب 1973، ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد، كلها أحداث أعادت تشكيل التحالفات العربية ودفعت المغرب إلى إعادة ضبط سياسته الخارجية.

وفي الوقت نفسه، كان الداخل المغربي يعيش على وقع صراعات سياسية حادة: تأسيس أحزاب معارضة ونقابات قوية، أحداث كبرى مثل مولاي بوعزة، واختطاف المهدي بن بركة، واغتيال عمر بنجلون، وانفجارات اجتماعية متفرقة. كل ذلك جرى في تفاعل مستمر مع أحداث عربية مفصلية مثل الثورة الإيرانية، والحرب العراقية–الإيرانية، وأزمة الخليج سنة 1990.

إن قراءة هذا المسار المتشابك بين التاريخ السياسي المغربي والتحولات العربية، تكشف كيف أن مصير المغرب لم يكن معزولاً عن محيطه، وأن قراراته الداخلية والخارجية كثيراً ما كانت استجابة لتوازنات إقليمية متقلبة، وصولاً إلى محطة وفاة الملك الحسن الثاني سنة 1999 التي أنهت حقبة كاملة وفتحت الباب أمام عهد جديد.

مرحلة تثبيت الاستقلال وبناء الدولة (1956 – 1961)

1956: استقلال المغرب عن فرنسا (2 مارس) وإسبانيا (7 و27 أبريل)، وبدء تأسيس مؤسسات الدولة الحديثة.

يشكل عام 1956 محطة مفصلية في التاريخ السياسي للمغرب الحديث، إذ تَوجت فيه عقود من النضال الشعبي والسياسي والعسكري ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني بإعلان الاستقلال، إيذانًا بمرحلة جديدة عنوانها الأبرز: تأسيس الدولة الوطنية الحديثة. لقد كانت هذه اللحظة التاريخية بداية مسار معقد لإعادة صياغة الهوية السياسية، وترميم وحدة التراب، وبناء مؤسسات قادرة على الاستجابة لطموحات شعب خرج لتوه من أتون الاستعمار.

1. سياق التحرر وتعدد الجبهات

منذ توقيع معاهدة الحماية عام 1912، عاش المغرب حالة انقسام سياسي وجغرافي بين نفوذ فرنسي في الوسط والجنوب، ونفوذ إسباني في الشمال ومنطقة طرفاية والصحراء، إضافة إلى وضعية خاصة لمدينة طنجة الدولية. هذا التشظي فرض على الحركة الوطنية أن تخوض معركة متعددة الجبهات:

جبهة سياسية قادتها أحزاب الحركة الوطنية، وعلى رأسها حزب الاستقلال، عبر العمل الدبلوماسي والمذكرات المرفوعة للسلطات الاستعمارية.

جبهة ميدانية حمل لواءها جيش التحرير في الشمال والجنوب، مستفيدًا من امتداد شبكات المقاومة المسلحة.

في هذا السياق، لعب السلطان محمد الخامس دورًا محوريًا، سواء عبر موقفه الرافض للإجراءات الاستعمارية إبان نفيه عام 1953، أو من خلال عودته المظفرة في 16 نوفمبر 1955، التي شكلت نقطة تحول نحو التفاوض على الاستقلال.

2. استعادة السيادة المزدوجة

أُعلن استقلال المغرب عن فرنسا في 2 مارس 1956، ثم عن إسبانيا في 7 أبريل بالنسبة لشمال البلاد، وفي 27 أبريل بالنسبة لمنطقة طرفاية، في عملية سياسية متدرجة. غير أن هذه الاستعادة لم تكن شاملة؛ إذ بقيت أجزاء من التراب المغربي تحت السيطرة الإسبانية أو الدولية، مثل سيدي إفني (استُرجعت عام 1969) والصحراء المغربية (1975) وسبتة ومليلية اللتان ما تزالان تحت الاحتلال الإسباني.

هذا التدرج كشف أن الاستقلال لم يكن حدثًا لحظيًا، بل مسارًا ممتدًا من التحرر الوطني حتى استكمال الوحدة الترابية.

3. تحديات بناء الدولة الحديثة

ما إن تحقق الاستقلال حتى وجد المغرب نفسه أمام تحديات جسيمة:

إعادة توحيد البنية الإدارية والقانونية بعد عقود من التجزئة بين مناطق النفوذ المختلفة.

تأسيس مؤسسات الدولة، بدءًا من الجيش الوطني والشرطة، وصولًا إلى الوزارات والإدارات العمومية، وهي عملية اقتضت دمج أطر مغربية قليلة الخبرة مع بقايا الجهاز الإداري الاستعماري.

صياغة رؤية اقتصادية قادرة على الانتقال من اقتصاد موجّه لخدمة مصالح المستعمر إلى اقتصاد وطني يحقق التنمية، وهو ما تطلب إصلاحات زراعية وصناعية وتوسيع شبكة التعليم.

كما برز تحدي الشرعية السياسية بين تيار يدعو إلى تكريس دور الملكية كمرجعية جامعة، وتيار وطني يسعى إلى تعزيز دور الأحزاب في صياغة القرار، وهو ما سيؤدي لاحقًا إلى توترات سياسية في ستينيات القرن الماضي.

4. ملامح السياسة الخارجية في العهد الجديد

مع الاستقلال، تبنى المغرب سياسة خارجية تقوم على ثلاث ركائز:

دعم حركات التحرر الإفريقية والعربية، ما عزز مكانته في محيطه الإقليمي، خاصة في إطار مؤتمر باندونغ (1955) وحركة عدم الانحياز.

التفاوض لاسترجاع ما تبقى من أراضيه بالوسائل الدبلوماسية، مع إبقاء الباب مفتوحًا للمواجهة إذا اقتضى الأمر.

تنويع الشراكات الدولية وعدم الارتهان لمحور سياسي واحد، ما أتاح للمغرب الحفاظ على استقلالية قراره الخارجي.

5. دلالات اللحظة التاريخية

يمكن قراءة محطة 1956 بوصفها لحظة ولادة ثانية للمغرب: ولادة سياسية تقوم على استعادة السيادة، وولادة مؤسساتية تعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع. إلا أن هذه الولادة جاءت في سياق إقليمي ودولي شديد التعقيد؛ إذ كانت الحرب الباردة في أوجها، وكانت المنطقة المغاربية تشهد تحولات كبرى مع استقلال تونس (1956) والجزائر لاحقًا (1962)، ما جعل المغرب مطالبًا بحماية استقلاله السياسي والاقتصادي من الضغوط الخارجية.

6. إرث الاستقلال في الذاكرة الوطنية

رغم مرور ما يقارب سبعة عقود، يظل استقلال 1956 رمزًا للوحدة الوطنية والتضحيات المشتركة بين العرش والشعب. غير أن تقييم هذه المرحلة يكشف أن نجاح التحرر لم يكن كافيًا لضمان انتقال سلس نحو الديمقراطية والتنمية الشاملة، إذ واجهت الدولة الحديثة صعوبات بنيوية لا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم، مثل مركزية القرار وضعف العدالة الاجتماعية.

لقد مثّل عام 1956 بداية مسار طويل لبناء دولة السيادة والمؤسسات، مسار ما زال مفتوحًا على تحديات جديدة في عالم متغير، لكنه يظل شاهدًا على لحظة التقاء الإرادة الوطنية مع ظرف تاريخي مواتٍ لصياغة ملامح المغرب المعاصر.

يتبع


0 التعليقات: