حوارحول أيام الصبـا أجراه حكيم عنكر لجريدة المنعطف
ملف خاص عن طفولة الكتاب المغاربة الطفولة المتعددة
الطفولة هي أحد مصادر الإبداع، تلك الطفولة الملتبسة البعيدة، ذلك الصوت الرنان الذي تنصت إليه في خلواتنا، ونعةد إليه، متالحين، كلما أوغلنا في الذهاب.
الإياب إلى أيام الصبا، اشتياق، وجواز مرور إلى براءة كانت، يعمدها الكاتب والشاعر، بالحنو، ومنها ينطلق كي يشيد عالما ويسمي كونا ويغرس في أرض متخيله علما.
* هل طفولتك في هذا الشيء العائم في الذاكرة؟
* هل تتمثلها كحقيقة صرفة أم كبعد رمزي؟
* كيف تتصادى معها في قصيدتك، قصتك، روايتك، مسرحيتك؟
* الطفولة هي الرجع والصدى، هي الماضي، هي ما كانت وما تكون. هل تكتفي باللحظة التي كنتها أم تتطلع إلى ما ستكون؟ وما هذه الكينونة؟
* تم ماذا لو سألتك أي طفولة من الطفولات كانت طفولتك؟
* هل هو ترتيبك في العائلة؟ ثم ماذا يعني لك ذلك؟ هل هو قدر أم صدفة أم أنك في غنى عن تأمل هذه المسألة؟
* من هو الشيطان الرجيم لطفولتك، الظلام، الأرواح الشريرة، أبناء الجيران، النهر، المدرسة، الثلج، الصباحات، الكلاب...؟
* وأنت على مبعدة من طفولتك الآن ماذا لو طلبت منك أن تناجيها، ماذا ستقول لها أية رسالة ستكتبها إليها؟ الطفولة وشم في الذاكرة والجسد.
أجرى الحوارات: حكيم عنكرلجريدة المنعطف
شكرا لسؤالك الذي استنبت ثانية بين أناملي ريشتها المعدنية القديمة المنقوعة في مداد الطاولة الرؤوم، ذلك الحضن الخشبي الذي قرأت في مغارته أول حرف...
هو السفر الاسترجاعي إلى الملاذات المجاورة للجنة المأهولة بملائكتها الصغيرة، ذات الأجنحة الشفافة والهمس الرقيق... والآن أتساءل بماذا كانت حافظة الذاكرة ستعبؤ لولا هذه التواريخ الموشومة على إهابها... يكفي فقط أن إغمض الجفن كي ألملم المسافة الزمنية وألفف جسدي بقماط اليدء... إنها تعوم في حيز الذاكرة، بها أحبى بل وأستمر في الحياة. ولها كل التلاوين التي تجعلني أتمدد على أرجوحتي اللغوبة لتطوح بي من حفافي اليقين إلى آفاق الرموز القزحية. إنها الآن قد انعجنت من مستحضرات الحقيقة وقد تحولت إلى كمياء ببهارات الرمز الريان.. تبدو الآن الحارة العتيقة بمكناس بدوروبها الضيقة وحوانيتها الواطئة وصخبها الذي لم يمسسه يومئذ أزيز "الدييزيل" كانت الحارة جزيرة مائية يحرسها "القمر الأحمر" وكانت "الدار اللي هناك" تتفبؤ تحت عناقيد العنب وثمرات السفرجلة التي كانت برجا لطائر الموت الخرافي الذي نعي لي موت جدتي في إحدى ليالي الصيف القائظة.. يصعب علي أن أرمم أشلاء تلك الصور والأصوات والحكايا، إذ كانت الحارة في بداية الاستقلال فسيفساء لجغرافية تدشن أولى خطواتها في عند الانعتاق وتمديدها لمفاتيح الحداثة حيث كان بالبيت الذي ترعرعت فيه جهاز تسجيل يشبه الحقيبة وراديو كبير قد يتحول أحيانا إلى منضدة وكان في غرفة أخرى آلات موسيقية عصرية إذ كان عمي رئيس فرقة تتمرن ببيتنا على أغاني "الجاز" و"إليفيس" ولكم كنا نحن الأطفال نقتنص لحظات غيابه فنعبث بهذه الآلات ثم يردفني الوالد على دراجاته النارية BMW إلى المسيد... في المصرية أي فوق المسجد... أصعد الأدراج وأبحث عن لوحي المحفوظ وأدلف ببطء إلى الصف الخلفي بعيدا عن خط الفلقة. منذئذ تعالقت لدي الكتابة بالآلم... قضيت الفقيه ونتوءات الحصير الحادة التي تترك آثارها على أطرافنا، وغليان المتانة وقد أفرغ ما بها في سروالي وليس علي في ذلك من حرج...
الطفولة بهذا المعنى هي كل ذلك التيه اليومي في مملكة الدهشة والاكتشاف بالجسد "الاسماعيلي" في كون الألوان والأحجام والروائح، هي دغدغة القدمين الطريين على الاسفلت والجري المهموم بين الأزقة خلف كرة "الشراويط" وما أكثر ما أنتهي تيهئا بالفقدان في ظلام البوابات التاريخية والصابات العتيدة المأهولة بالعفاريت ثم تأخذنا يد رحيمة إلى ملاذنا فتكون العودة أيذانا بإقامة جبرية.
ما أذكر يوما أنني افتتضت قفل الذاكرة كي أؤثت بمتاعها قصة ما. قد يكون هذا رجس من عمل الرواية فجل الروايات العربية تعيد إنتاج الطفولة بقدرما وعطب الرواية العربية أنها لم تخلص كعبها من أصفاد السيرة الذاتية والحفر في المتخيل... إننا نتجه إلى الآتي الذي فيه شيء من الماضي، ولي كل الماضي.
لقد كانت طفولتي نوعا من الإقامة الجبرية الوهمية لذلك كان الانفلات من وقاحة الحيطان عصيانا على سلطة الأب المادية والمعنوية وانقلابا على عناية الآم الزائدة على اللزوم، ثم يكون المفر إلى الشساعة العتيقة بجوار الأسوار القديمة أو على حافة "صهريج السواني" حيث نترقب طلوع الأرواح الخفية التي قد تتقمص سمك البوري.. جن الأعماق الذي يزهق أرواح المترنحين الذين يخضخضون بأقدامهم سكون الماء المقدس، أذكر أنني عثرت في صباح ما على هيكل أخضر، ولن أنسى ذلك المشهد الرهيب لرجال المطافئ وهم ينتشلونه من على صفحة الماء المقدس.
وقد كنت بدوري قاب قوسين حين وجدت فجأة نفسي في قرارة الصهريج أعارك الموت حتى وصلت إلى المنحدر الآمن وكانت اليد الآثمة التي ألقت بي قد تمكنت من الهروب.. هكذا كانت الطفولة اكتشافا حقيقيا للموت المتعدد ورحلة خرافية أيضا لهتك سجف المخلوقات اللامرئية التي كانت تتربص بي في كل منعطف معتم في الماء الساخن، بين أغصان الدالية في عمق البئر، في خرير سقابة الدرب، في كل ذاك الفراغ المليء يندس شيطان ما.. هكذا كنت أتخيل العالم.. ولكم كنت أتمنى لو أعثر في أحد الأضرحة على خاتم سليمان وأتمكن من فتح خزائن الأرض وأن أكون الحاكم الأعظم لامبراطورية الأطفال والفراشات والعصافير.. قد كنت أحقق بعصا من بطولاتي الصغيرة وأنا ماسك بتلابيب والدتي تتفرج على شاشة الحائط التيكانت تجود بها على الحي وزارة الأنباء في الستينات والتي كانت تبث الأفلام الهندية الملحمية ووصلات إشهارية للتوعية الصحية وفقرات للدعاية لأبطال الرياضة مثل "محمد الورش" وقيصر كرة القدم "بيلي" وحارس المرمى الروسي "ياشين".. لكل هذه التعارضات والمفارقات بين الغلو في أن وبين أن يكون لك العالم في المتخيل وأن يكون لغيرك في الواقع.. هكذا تتعدد الطفولة.. زيام المدينة العتيقة حيث تتجدد التجليات ونحن نعبر ذهابا وإيابا إلى المدرسة نشاغب البقالة أو نطرق الأبواب أو نعتمد دفع أحدنا فجأة على بائع النعناع في راس الدرب فتكون وجبة العقاب قاسية جدا..
أي الطفولة كنت.. إنها الطفولة المتعددة التي لن يتسع لتفاصيلها المقام.. الطفولة الممهورة في ندى مكناس سيدة كينونتي وهي توقع أولى خطواتها على درب الانعتاق.. لو أن مكناس لو أن مكناس.. وفت لمواعيدها.. لو أن طفولتي المشبعة يشفق القمر الأحمر أخلصت لأحلامها لكان للحاظر في "الدار اللي هناك" أغنية مختلفة أجمل من سمفونية "الفصول الأربعة" لفيفا لدي.
والآن على مبعدة من هذا الأفق الخلفي بأية غنغنة يمكن أن أناجيها وهل سترقى المحاورة السرية إلى تفجير رائحة الصدر الرؤوم ثانية وإمدادي بذلك الدفاق الدافئ من اللبن السماوي.
هل بإمكان اللغة أن تنفخ في سماء الطفولة الآن وذلك الغيم الباذج وتلك الرياح الشتوية الكريمة... هل بإمكان اللغة أن تعيد لي لحظة من طفولتي دون خيانة في زمن الجدب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق