في الوقت الذي تواجه فيه الجزائر تحديات إقليمية كبرى على حدودها الجنوبية، تتفاقم أزماتها الداخلية نتيجة فشل مزمن في إدارة التنوع الوطني، وانعدام الثقة في المؤسسات، وتنامي السخط الشعبي من ممارسات السلطة القضائية والأمنية. ثلاث قضايا متداخلة تكشف عمق الأزمة الجزائرية: تدهور علاقاتها بدول الساحل، استفحال ظاهرة "الحكرة" داخل مؤسساتها، والتشكيك في الاتهامات حول دعم فرنسي مفترض لحركة الماك. كل هذه المؤشرات لا تنفصل عن نمط سياسي مغلق يقوم على الانكار، والتضليل، وتصدير الأزمات.
منذ استقلال دول الساحل،
كانت الجزائر تُقدّم نفسها كقوة إقليمية حامية للاستقرار ومساندة لحركات التحرر. غير
أن التحولات الجيوسياسية الأخيرة، خاصة بعد الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو
والنيجر، كشفت عن التراجع الحاد في تأثير الجزائر داخل هذا الفضاء الاستراتيجي. فبدلاً
من بناء تحالفات ذكية قائمة على الاحترام المتبادل، اختارت الجزائر خطاباً أبوياً متعالياً،
ما ولّد شعوراً بالعداء وسوء الفهم.
الأنظمة العسكرية الجديدة
في الساحل، والتي وجدت دعماً متزايداً من روسيا من خلال "فاغنر"، اتهمت الجزائر
بالنفاق، والازدواجية، والتواطؤ أحياناً مع شبكات التهريب العابرة للحدود. خطاب الجزائر،
الذي يستحضر شعارات من زمن الحرب الباردة، لم يعد يتلاءم مع واقع المنطقة المعقد الذي
يتطلب براغماتية وتحالفات مرنة. كما أن تمسكها بسياسة عدائية تجاه المغرب ورفضها التعاون
الإقليمي لمواجهة تحديات مثل الإرهاب، لم يزد الوضع إلا عزلة. هكذا، أصبحت الجزائر
تينظر إليها كقوة متراجعة، غير قادرة على كسب ثقة جيرانها أو التكيف مع الديناميكيات
الجديدة.
في الداخل، لا يختلف
الوضع كثيراً من حيث التعفن المؤسساتي. فـ"الحكرة"، وهي الكلمة التي باتت
تختصر شعور الجزائري بالظلم والإهانة، أصبحت سمة بنيوية لنظام العدالة في البلاد. قضاة
بلا استقلال حقيقي، يفرضون أحكاماً قاسية في حق نشطاء الرأي والمعارضين، بينما يغمضون
أعينهم عن ملفات الفساد الكبرى التي تتورط فيها شخصيات نافذة من الجيش والمخابرات والاقتصاد.
العدالة الجزائرية،
بدلاً من أن تكون صمام أمان للدولة والمجتمع، تحولت إلى أداة في يد السلطة التنفيذية
تُستعمل لتصفية الحسابات وترويع المجتمع المدني. تكفي الإشارة إلى الأحكام القاسية
ضد نشطاء الحراك، والملاحقات التي تطال الصحفيين، وأحكام السجن بحق مواطنين على خلفية
منشورات على فيسبوك. هذا الواقع القاتم يجعل من القضاء أحد أبرز مصادر القلق السياسي
والاجتماعي في البلاد.
في هذا المناخ المضطرب،
تتفاقم أزمة الهوية والوحدة الوطنية. فحركة الماك (الحركة من أجل تقرير مصير منطقة
القبائل)، التي تأسست في فرنسا وتطالب بانفصال منطقة القبائل، أصبحت حاضرة بقوة في
الخطاب الرسمي الجزائري، إذ تُتهم باريس بدعمها سياسياً وإعلامياً وحتى استخباراتياً.
رغم أن السلطات الفرنسية
لم تعلن بشكل مباشر أي دعم للماك، إلا أن معطيات عدة تغذي هذا الاعتقاد في الجزائر،
من بينها منح اللجوء السياسي لقياداتها، والسماح لهم بالتظاهر بحرية في باريس. ومع
رفض القضاء الفرنسي مؤخراً تسليم أحد أبرز قياديي الحركة، أكسل باباسي، إلى الجزائر،
تصاعدت اتهامات النظام الفرنسي بالتواطؤ في ما تعتبره الجزائر مساساً بسيادتها ووحدتها
الترابية.
غير أن هذا التوتر
لا يمكن فصله عن حالة التدهور في العلاقات الفرنسية الجزائرية، خاصة بعد تعثر اتفاقيات
التعاون، واستمرار الغموض في ملفات التأشيرات، والذاكرة التاريخية. كما أن استعمال
السلطة الجزائرية لهذا الملف في الداخل يبدو وسيلة للهروب من الاستحقاقات السياسية
الحقيقية، وتحويل الأنظار عن أزمات أكثر إلحاحاً، كالبطالة، الفقر، وتدهور الخدمات
الأساسية.
إن ما يجمع بين هذه
القضايا الثلاث خيط رفيع، لكنه واضح: الجزائر محاصرة في الخارج، ومشلولة في الداخل،
بسبب خيارات سياسية خاطئة، وأسلوب حكم يُفضل القمع على الحوار، والانعزال على الانفتاح.
سياسة الهروب إلى الأمام لم تعد تقنع أحداً. فالمجتمع الدولي بات يُدرك محدودية الدور
الجزائري في المنطقة، بينما المواطن الجزائري فقد ثقته في وعود السلطة ومؤسساتها.
إن مستقبل الجزائر
لن يُبنى على التخوين ولا على تصدير الأزمات، بل على المصالحة الداخلية، احترام الحقوق،
وتبني سياسة خارجية واقعية تفتح نوافذ للتعاون بدل أن تبني جدران العزلة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق