الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، يونيو 22، 2025

"قيس سعيد وسقوط تونس في فخّ الديكتاتورية الجديدة: عبده حقي


في زمن كانت تونس تُقدَّم فيه كنموذجٍ للتحول الديمقراطي في العالم العربي، تبدو اليوم وكأنها تنسلّ بهدوء إلى العتمة، تحت قيادة رئيس قرر أن يعيد كتابة قواعد اللعبة السياسية والاجتماعية بعيدًا عن روح الثورة ودستورها. أحدث حلقات هذا الانحدار تجلّت في الحكم الغيابي الصادر ضد الرئيس الأسبق «منصف المرزوقي» بالسجن 22 عامًا، بتهم ترتبط بـ"الإرهاب"، وهي تهم باتت تستعمل في العالم العربي كشفرات سياسية لتصفية الحسابات لا محاكمة الجرائم.

إن هذا الحكم لم يفاجئ المتابعين لتطورات الوضع في تونس، بل يندرج ضمن سلسلة إجراءات قمعية اتخذها الرئيس قيس سعيد منذ استحواذه على السلطة التنفيذية في 25 يوليو 2021، حين جمّد البرلمان وأقال رئيس الحكومة، ثم أعلن لاحقًا تعليق أجزاء من الدستور، وفرض واقعًا سياسيا جديدًا طبعته النزعة الفردانية والتضييق على المعارضة.

قضية المرزوقي ليست سوى مرآة عاكسة لطبيعة المرحلة الحالية. فاللجوء إلى القضاء العسكري أو المدني لتصفية الخصوم السياسيين، واستعمال تهم "المساس بأمن الدولة" أو "التحريض على مؤسساتها" بات ممارسة مقلقة، أدانتها جهات حقوقية دولية كـ«منظمة العفو الدولية» و«هيومن رايتس ووتش»، كما دفعت «المفوضية السامية لحقوق الإنسان» إلى إصدار بيان واضح في فبراير الماضي، تدعو فيه سلطات تونس إلى "وقف جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين، واحترام الحق في حرية الرأي والتعبير".

الرئيس منصف المرزوقي، المعروف بدفاعه الدؤوب عن حقوق الإنسان منذ عقود، قد لا يكون فوق النقد، لكنه بلا شك رمز من رموز الثورة التونسية ووجدانها الديمقراطي، وإدانته بهذا الشكل تعني أكثر من مجرد تصفية لحساب سياسي؛ إنها رسالة واضحة بأن المعارضة باتت تهمة، وأن الاختلاف مع الرئيس أصبح جريمة قد تكلّف صاحبه العمر.

الرئيس قيس سعيد، الذي جاء إلى الحكم بدعم شعبي واسع باعتباره شخصية "نظيفة اليد" من خارج الطبقة السياسية التقليدية، استثمر هذا الدعم لبناء نظام شخصاني، يُقصي فيه كل صوت لا يتماشى مع رؤيته، سواء من اليسار أو من الإسلاميين أو حتى من الوسط الحقوقي والمدني. بل إن التضييق لم يعد يقتصر على السياسيين فقط، بل طال الإعلاميين، والنقابيين، وحتى القضاة، كما يتضح من قراراته السابقة بعزل العشرات من القضاة دون محاكمة مستقلة.

الملفت للنظر هو أن قيس سعيد يبرر دائمًا قراراته بحجج تتعلق بـ"تطهير الدولة" أو "محاربة الفساد"، وهي مفردات براقة لكن نتائجها الواقعية تكشف عن نية إضعاف المؤسسات وفصل السلطات. فبينما تغيب آليات الرقابة التشريعية، وتتراجع استقلالية القضاء، تستمر الحريات الفردية والعامة في التآكل أمام مرأى ومسمع المجتمع الدولي.

وإذا كانت السلطة التنفيذية في تونس تجد في اتهام المعارضين بـ"الإرهاب" غطاءً لتصفية الحسابات، فإن ما يقلق أكثر هو الصمت العربي، بل والتواطؤ أحيانًا، مع هذا المسار السلطوي، في مقابل قلق متزايد من المنظمات الدولية التي ترى في تونس اليوم مرآة لما يمكن أن يحدث حين تُختزل الثورة في شخص، والدستور في إرادة فرد.

ولا يمكن هنا إغفال الأثر الخطير لهذا الوضع على مستقبل المنطقة المغاربية ككل. فحين تتحوّل تونس، مهد "الربيع العربي"، إلى دولة يعاد فيها إنتاج السلطوية باسم "السيادة" أو "الوطنية"، فإن ذلك يشكّل نكسة رمزية وسياسية للمدافعين عن الانتقال الديمقراطي في شمال إفريقيا.

إن محاكمة المرزوقي وما سبقها من اعتقالات وإقصاء ممنهج لخصوم سعيد، لا تعبّر عن قوة الدولة بل عن هشاشتها؛ عن رعبها من الكلمة الحرة، وعن نظام لا يثق إلا في مرآة تعكس صورته منفردًا. في المقابل، فإن التاريخ لا يرحم. ومهما طال عمر القمع، فإنه لا يصنع استقرارًا ولا شرعية، بل يؤسس لانفجار سياسي واجتماعي قادم.

وبينما ترفع السلطة في تونس شعار "محاربة الفساد" و"الدفاع عن الدولة"، فإن أهم ركيزة لبناء دولة حديثة ليست القبضة الحديدية، بل القضاء المستقل، والإعلام الحر، والمعارضة المسؤولة. وفي غياب ذلك، تصبح الأحكام القضائية أداة ترهيب، لا وسيلة عدالة.

في ختام المشهد، يبدو أن قيس سعيد اختار الطريق الأصعب: أن يحكم وحيدًا، ويتحدث وحده، ويقرر وحده. لكن التاريخ في تونس علّم الجميع أن الصوت الحر لا يُسجن، وأن الديمقراطية وإن تعثرت، لا تموت.

0 التعليقات: