الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 16، 2015

شارب " الابنست "

شارب " الابنست "
لم يبق في الحانة غير بقايا ...  بقايا الأشياء  وبقايا يوم  يراجع مفكرته على إيقاع  بندول مخموروعقربان متعانقان على سريرالثانية عشرة ليلا .
النادلة "ايف " وحدها خلف الكونتوارمنتصبة مثل شجرة سنديان مثقلة بندف الثلج والقطة "مينو" كعادتها تنط إلى ركبة سيدتها ثم الى قارعة الكنتوار لتشمم صحينات التراويق أو لتمشش فقريات السمك المقلي.
قال في نفسه ( متى سأنعم بالتحليق مثل الاخرين .. جون وروبير وباسكال وحتى إيف هذه النادلة توأم "مينو" عندما تفرط في التدخين والشرب والكلام العابرحول الانتخابات وقضايا الهجرة والضرائب المرتفعة و...و...
تفقد جيوبه ، لم يعثرسوى على فتات التبغ وأعواد الكبريث الفاسدة التي يحتفظ بها لكي ينظف أسنانه، طبعا عندما يكون لديه وقت لذلك ...
دس القفازالصوفي في جيبه ، فيما نسي الجيب الآخر متدليا إلى الخارج كالجورب ، ناولته إيف بيرة أخيرة .. أحس بأكلان رغوتها وعذوبة اندلاقاها .. إيف تتنصت لغرغراتها في بلعومه وتختلس نظرات إلى أساريره والمسحة القرمزية حول بؤبؤيه ، قالت (إشرب .. إشرب .. يامحمد ما استطعت فما أقسى شتاء هذا العام ).
وأجابها وكأن كلماته تسيل على ذقنه لزجة كالقطران (و سيكون شتاء طويلا .. طويلا ، فماذا أعددنا لذلك يا ترى؟ حطب ، مكيفات هواء ، شامباني ، مواقد كل هذا لا يكفي إذا ما ضيعنا ما تبقى في أيدينا من دفئ إنساني ، ) قال هذا وعيناه مشغولتان بالنظرإلى لوحة " شارب الابنست " ليبكاسو .
لم يبق من الأضواء سوى أباجور خافت أحمر قان متدلي فوق رأس إيف .. كور يديه .. نفخ في تجويفاتهما  ثم قذف بجسده على حين غرة إلى الشارع كأن شخصا ما دفعه  بقوة من الخلف وفي حقيقة الأمر لم يكن راغبا في الانصراف، بل ما حدث له وقتئذ مثل شعورنا حينما ننهض دون أن نحدد ما سنفعله فيما بعد...
تحت قدميه ، تتوارى مربعات الطوارالمطلية بالأبيض والأحمر .. خطواته تقع على المربعات البيضاء تلقائيا .. صدر منه زفيرثم أعقبه صفيرتوهمه أبيض هو أيضا وعائما في خواء الشارع .. وها هو يتحول بدوره إلى كائن تلقائي مجرور إلى منتهى شارع "سان كاترين " حيث حديقة الطيور"أيكزوتيك" المتلقعة في صمتها المسائي البارد و حيث تركن خلفها قرب المرحاض العمومي غرفته وهي من صنف أستوديو كما يشاع عند المغاربة والملونين و المنبوذين هنا ، غرفة ضيقة مزينة جدرانها بأبخس لفائف أوراق الديكور ..
مصباح واحد .. فنجان واحد .. كرسي واحد .. سريرلشخص واحد .. وهناك فوق التلفازصورته الوحيدة حين كان طفلا طليقا هناك في شساعة الصحراء.
في الغرفة إذن رجل واحد .
أصاب شفتيه تشنج مثلج .. تفقدهما بأرنبة لسانه فلم يحس بشئ .. لسانه داردورة في فراغ .. دورة قد تشبه صفرا مترهلا أو بيضة فاسدة .. حاول تمطيطها أو على الأصح تشغيلهما قائلا شيئا من هذا القبيل  " أشرب إذن أنا موجود"  فتطاير إثرئذ  بعض رذاذ اللعاب على وجهه فتذكروهويخطو باتجاه نافذة الاستوديو كلام العربيد باسكال (السكر يبدأ من الشفتين ) ولكي يتأكد من ذلك تحسسهما ثانية فتهيأ له أنه قد عض على أصبع نقانق نيء وقال في نفسه ( سكرت إذن .. وصدقت يا باسكال) .
قام يذرع الأستوديو .. يداه متشابكتان خلف ظهره ... بدا ظله على الجدار المزين بطيوراللقالق مثل كاريكاتور طائرسوي على عجل على إحدى  صفحات جريدةl Le canard en chainé   . أحس بعطش حار، ذات العطش الذي يتبع عادة إفراطه في السكر .. فتح الصنبورالفضي، فصدر منه عواء مبحوح (عوو.. عوو) .. فأيقن أن الوقت قد تجاوزالثانية عشرة ليلا و في مثل هذا الوقت .. في وقت مقيت كهذا يكون حارس خزان الماء الرئيسي في الحي الإداري قد أقفله تماما وغارق في غطيطه .
فجأة سمع طرقا خفيضا .. لم يستطع تحديد ما إذا كان على باب الاستوديو أم على باب جاره الجمركي الذي يفصل بينهما حائط من البناء المسلح . وحدس أخيرا أن شخصا ما قد قصده بالفعل وغمغم في نفسه ( من يكون هذا الوغد فالواحد منهم لا يقوى على تحمل نفسه حتى، فكيف له أن يتحمل رائحتي وسحنتي ، ثم  ماذا سيربح من مهاجر بئيس مثلي يراه مندسا في أشيائه الصغيرة والكبيرة ، في مصعده ، في متجره ، في مصنعه ، في قطاره ، في تلفزته وجرائده وعموما في خبزه  وثقافته .. فأنا أعرفهم جيدا .. جيدا، يقولون لكSalut  باقتضاب مقتركأنهم يدفعونها نقدا وأنت لاشك تتوقع هذا قبل أن ترتطم بأحدهم في الأسانسير .. وعلى كل حال لن أفتح قبل معرفة من يطرق بابك .
أصاخ السمع لوقت قصير، و المؤكد أنه لم يدرفيما إذا كان طويلا أم قصيرا غير أن الطرق عاد للمرة التانية  وفطن إلى أنه قد زاد عن الطرق الأول بواحدة كانت ملحاحة  مضغوطة ، كأنها لرجل مطارد في وقت
متأخر .
دس المفتاح في جيب المعطف الذي بقي متدليا كالجورب قبل حين (هل تتذكر أيها السيد ، حسنا ، ما أعظم الوفاء .. الإنصات الجيد وفاء ) قلت دس المفتاح و دفن سيجارته بين لحمة الاذن وصدغه المشيب ... كان لايقوى على المشي قيد أنملة كأن قدميه مكبلتان إلى الخلف بأصداف مطاطية ... كانت المسافة بين المنضذة والباب لا تتعدى بضعة أمتارومع ذلك فقد كلفته وقتا أكثرمن اللازم أوهكذا تهيأ له على الأرجح .. في الخطوة الأخيرة و بينما هو يهم بفض عضو المزلاج دوت ضربة أخرى .
كانت هذه المرة بقضبة يد مكورة من دون شك... أزاح غطاء عدسة الباب وطفق يراقب بعينه اليمنى .. معطف من الفروالرفيع الأبيض الناعم  ذكره بالقطة "مينو".. يد بضة  بيضاء تتلاعب أناملها  باهداب  شال  اسود .
لم يصدق ما رآه بأم عينه ، فهولم يعقد موعدا  مع بائعة الهوى ولا مع فتاة رصيف ولم يهاتف مديرة مأوى الذعارة المنظمة منذ حادث  الميترو حين  اكتشف بالصدفة  أن السيدة التي كانت ترافقه ليلا في مقصورة  الطيجيفيTGVهي رجل من الشواذ جنسيا  حتى بات يشك في حقيقة كل الأشخاص الذين يصادفهم وتلافيا لكل هذا وذاك  من صداع الرأس فهو  قد  قررأخيرا أن يعدل عن فتح باب الأستوديوثم إنه غيرمستعد  مهما يكن من أمرأن يفسد على  نفسه متعة وحدته بكلام مسلسلات وسجالات TF1 فهو يعرف بالتجربة أنها لن تفضي  إلى مخرج ..
بعد صمت طويل ، صمت منحه  القدرة على إدراك ما يحيط به وما لا يحيط بدا كأنه يتأهب لوقوع  شيء ما ..شيء يمكن أن يقوض في  أية لحظة هذا الصمت ، كأن تعصف الريح فجأة برتاج النافذة أو باطارصورته  الوحيدة فتنفلت من مشجبها ثم تقع على الارض وقد  يوقظ هذا العجوزالمتقاعد ويكلف  نفسه  عناء النزول  اليه  ليستفسره  في أمرما يحدث وعلى كل حال فقد  صار يتمنى  في صمته  ألا يقع شيء  من هذا أوذاك ولذا فقد حاول  تفادي ما يمكن أن يحدث ودنا  من النافذة فلمح حارس العمارة وسيجارته في فمه متوهجة مثل عين مارد حمراء .
دلف إلى المطبخ ليعد فنجان قهوة مركزة بالحامض.. ثم سحب ورقة بيضاء ، وخط عليها كلمات أولى لقصة قصيرة محتملة يكون مطلعها : (لم يبق في ألحانه غير بقايا .. بقايا الكائنات .. بقايا الاشياء ، وبقايا يوم يراجع مفكرته على ايقاع بندول مخمور وعقربان متعانقان على سرير الثانية عشر ليلا ).. .
كان في كل مرة يطالعها يكتشف سخافة ما تحمله بين السطور .. وبدون تردد أضرم فيها الناروألقى بها من النافذة و تابع تأرجحها في الهواء مثل قذيفة حتى وقعت بين قدمي حارس العمارة الذي كان منشغلا بمسح نظارته .
فجأة سمع فيضان إبريق القهوة .. أوه لقد نسي قهوته كالعادة أوبالاحرى كان مرغما هذه الليلة على نسيانها .
في الصباح صحا على إيقاع ارتطام قطرات الصنبور بسطت المغسلة. إنه يسمعها من تحت الملاءة طن .. طن .. طن .. لقد دشن يومه إذن بهذا الإيقاع المائي الرتيب ، المقرف وبذلك الشعورالذي ينتاب المرء صباح الاثنين و هو يتأهب لركوب ناقلة المصنع .
شعر بغثيان و تذكر الشاعرريتسوس ( هذا الغثيان / ليس مرضا / انه جواب ) هرع وأطرق برأسه من تحت الصنبوروقتا كافيا كي يسترد انفراجه الجوفي، سمك مقلي .. رغوة البيرة و صوت جاره الجمركي يردد مع شارل أزنافورأغنية خفيفة .
فجأة عطب صوته وتحول إلى سعال ديكي شبيه بعواء الصنبور (عوو .. عوو .. عوو) ثم اندفع السائل إلى البالوعة محملا بخليط الستيك بالشامبنيون وتشكيله من السلاطة وكانت رائحة الحموضة الخبيثة التي تسربت عبر الثفوب والشقوق ايذانا بيوم غير عادي .
فاس في 1989

0 التعليقات: