ها أنت أيها الوقت قراءة في السيرة الشعرية الثقافية لأدونيس
هذه القصيدة العربية بجسدها المشروخ بالرجات والهزات التكتونية وروحها المشيعة بلهات الشعراء وزفراتهم المتلاحقة عبر الأزمان، لم تكن لتطرق أبهاء الكونية لولا حس التمرد والمجازفة عند فئة قليلة من حفدة أبي تمام والمتنبي وغيرهما ولولا أيضا ذاك القلق النهضوي الذي أنيثق في دواخل الكائنات الشعرية المؤمنة بأن ترميم الذات العربية يستوجب أن يشمل جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية بكل مكوناتها، ولأمراء في أن المكتبة العربية تحفل بالعديد من الآثار التي رصدت للمرحلة الحاسمة في التاريخ العربي وخصوصا القرن التاسع عشر وإلى حدود العقد الستيني من القرن العشرين. ولقد حاولت هذه الآثار الفكرية ملامسة تشكلات وإرهاصات الوعي من خلال الصدمة بالغرب المحتل والمحتال، غير أن قليلا من الكتاب مبدعين ونقادا ممن أرخوا بسيرهم لتحولات الرحم في القصيدة العربية على مستوى كل بنياتها الدالة. ومن بين هؤلاء الشارع المتألق أدونيس من خلال سيرته الشعرية "ها أنت أيها الوقت" (دار الآداب الطبعة الأولى بيروت 1993) التي مكن اعتبارها مرجعا أساسيا يجعلنا نحس بذات الوجع والمخاض الذي تمخضت عنه القصيدة الحديثة ومعرفة المعيقات الفكرية وكذا المحفزات المحاينة التي فرضت على الصوت الشعري العربي أن ينعتق من أصفاد البنى التقليدية وحمولاتها المتحجرة...
2-ينطلق أدونيس في هذه السيرة الشعرية الثقافية من رصد الواقع الثقافي في الشرق حيث كان يتوزع بين محورين بارزين في حركية الثقافة. فقد كانت القاهرة أول مركز عربي لما يمكن أن نسميه "صراع المعاني" وهو صراع كان مهووسا بالتحرر من أجل تأسيس الهوية إلا أنه مع بداية الخمسينات أصبحت بيروت تحل محلها وانتقل قلق البحث عن الهوية إلى تغاير داخل الهوية وبالتالي صارت بيروت مختبرا لتيارات عديدة في الاقتصاد والثقافة في النظريات الاجتماعية والسياسية والنزعات الليبرالية والدمقراطية، فتكونت بذلك سلطة داخل سلطة، وتحولت الثقافة بدورها عن الفعل الثقافي الرصين وبدأت أسطورة بيروت الثقافية تتفكك بسبب هيمنة السياسي الذي طمس التمايز والتعدد حتى في جانبه الإبداعي، وقد انعكس هذا سلبا على مستوى اللغة والشعر فبرزت الدعوة إلى خلق ثقافة ذات خصوصية لبنانية محل الثقافة العربية إيمانا باختلاف الوعي بالهوية وكذا اختلاف اللغة، فجاءت مجمل الكتابات (كشكول من الكلمات والأشياء كأنها نوع من الخيط بالإيدي) إنه كما يقول أدونيس (تيار ثقافي بقدر ما هو بحث عن الهوية فإنه يعبر عن أزمة الهوية التي هي قوام الإنسان ذاتا وإبداعا) وليست في تصوره في مجرد اختلافه عن الآخر وإنما في حركية اختلافه داخل ذاته بين ما هو وما يكون، فالهوية في الحالة الأولى انفصال وانكفاء وفي الحالة الثانية اتصال وتوثب، وتكون الهوية صيرورة أو لا تكون إلا سجنا ومن هنا فإن الاختلاف الذي يعطي الإنسان ماهيته هو في هذه الفحسة داخل الإنسان حيث يتحرك دائما لكي يتخطى ما هو مغيرا العالم وهذا ما يعلمنا إياه الشعر.
وعن تجربته الشعرية فقد اعتبر أدونيس سنة 1945 سنة حاسمة في حساسيته الشعرية، غيرت نظرته إلى المجتمع والكون معترفا أن تشكل هذا الفعل السحري للقصيدة تولد لذيه من خلال دأبه على القراءة المتفاعلة وجدانيا وجماليا مع شعراء المرحلة الحداثيين أمثال نزار قباني، بدوي الجبل، عمر أبو ريشة، نديم محمد وسعيد عقل وشعراء فرنسيون كبودلير في أضمومته المتفردة "أزهار الشر" ورونيه شار، وهنري ميشو وماكاس جاكوب، غير أنه في تقديري لم تكن لهذه القراءات الشعرية العربية والغربية لوحدها أثرها في قدرية الشعر الدى أجونيس فقد اطلع قبل هذه وتلك على ذخائر الشعر القديم بتوجيه من والده فقرأ للمتنبي وأبي تمام والشريف الرضي والبحتري والمعري...إلخ.
إن وعي أدونيس المبكر بضرورة التجديد وانخراطه في مشروع الحداثة جعله يصطدم في البداية بمناهج التدريس بالجامعة الدمشقية التي كانت كما قال في سيرته "تقتل الشعر" باجترارها للأدوات النقدية الكلاسيكية الجاهزة والهادمة لكل تفاعل وتواصل مع القصيدة. إنها مجموعة من الميكانيزمات المنهجية التي تجاوزها الشعر الحداثي على مستوى المعنى والمبنى ليؤسس لعلاقة ثنائية موسومة (بالرجات المتبادلة، حيث على الجسد أن يرج اللغة كما أنه على اللغة أن ترج الجسد).
1- بين أدونيس ويوسف الخال:
من دون شك أن العملية الإبداعية برمتها هي نتاج تراكم معرفي وثقافي ، والقصيدة بمخزونها ومكامنها الرمزية والجمالية والإيقاعية...إلخ وفي بعديها السطحي والعميق الواقعي والمتخيل هي نتاج تمازج مع قصائد أخرى. إن القصيدة في شكلها النهائي أخذ وعطاء... نص الأنا والتناص مع الآخر... هدم وبناء.. وكل قصيدة لا تقع فجأة كالنيزك من الفراغ السديمي بل هي مثل الورقة لا بد لها من الشجرة الأصل، تلك الدوحة التي سقاها بعرق جهدهم جميع الشعراء، سلف وخلف، وقليلون هم المبدعون الممنونون لظلالها وفاكهتها، قليلون هم الذين يقرون ببصمات الآخرين على تجاربهم، وقد جاء السيرة الشعرية لأدونيس إعلانا صريحا وجريئا للاعتراف بقائمة الأصوات التي أثرت في مساره الإبداعي وعلى رأس هؤلاء الشاعر الكبير يوسف الخال. فقد كانا معا شخصان يسكنهما هاجس واحد وقضية كبرى هي التأسيس لكتابة شعرية جديدة وكانا معا كما قال أدونيس (كمثل شخصين تربط بينهما صداقة قديمة قدم الشعر) وكان اللقاء الأول لقاء عمل توج بالتفكير في إصدار مجلة مفردة فقط للقصيدة ومفتوحة أيضا على مختلف الإسهامات النقدية المواكبة لحركية الشعر الحديث، وهكذا وبعد لقاءات طويلة ومطارحة لكل التوقعات والافتراضات التي سوف يجابهها هذا المولود العاق تم إصدار مجلة "شعر" سنة 1975 وقد اصطدم هذا المشروع في فرقعته الأولى بعوائق ثقافية ثلاثة: 1- الموروث الذي يدرس في الجامعات بنمطه التقليدي 2- انتاجات عصر النهضة (شوقي، مطران حاف إبراهيم...) 3- الشعر الناشئ باسم شالعر الحر والتقدمية واليسارية. كانت المعارضة شرسة في جميع مواقفها الوطنية والإيديولوجية إلا أنها لم ترق إلى المستوى الشعري المرغوب بل كانت عبارة عن تهم (رجعية، مؤامر، تبعية، خيانة) إنها تهم كما قال أدونيس تمثل نوعا من القتل المعنوي.
ضم العدد الأول من مجلة "شعر" قصيدة لشاعر مغمور هو سعدي يوسف وقصيدة لنازك الملائكة كما تضمن العدد قصيدة لأدونيس وأخرى ليوسف الخال وترجمات لشعراء غربيين أمثال عزار باوند وإملي ديكنسون. وقد حاولت هذه الأضمومة مقاربة قضايا الإنسان من خلال حياته الواقعية اليومية والنضال العملي الحي كما كشفت عن هذا قصيدة سعدي يوسف حول عبثية الواقع ولا معقوليته. وبذلك فقد راهنت مجلة 'شعر' على تدشين مناخ مغاير للعلاقات بين الشعراء والنقاد العرب غير أن هذا المناخ أوقع أدونيس ويوسف الخال في مستنقع إشكالات كثيرة حيث كان الجميع يحاول اقحامها في طاحونة "الإيديولوجيزم".
وقد أثارت مجلة "شعر" العديد من الأسئلة القلقة وانشغالات الذات العربية عبر البحث في مفاهيم من قبيل "الأصل" و"التجديد" و"التقليد" ومحاولة الإجابة عنها. وهنا يتوقف أدونيس عند مسألة التراث بما هو أصل واحد ومتعدد في أن يجمع بين عناصر الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والحديث. كان هاجس مجلة "شعر" يتجلى في قضية التجيد في إطار ثقافي شامل يتجاوز مجرد التغيير في انساق التفاعيل ويتجاوز كذلك مجرد الخروج على اشكال الومن إلى أشكال نثرية ترتبط أساسا بنظرة جديدة وشاملة إلى الوجود والإنسان وهذا ما رام أدونيس تفعيله في قصيدة "الفراغ" التي يعتبرها طفرة نوعية سواء على مستوى تجربته الفردية أو على مستوى ما كان سائدا. إنها قصيدة مشحونة بلغةنضالية واثقة وبغضب نقدي لـ"الفراغ" الذي كان يعيشه الوطن العربي... قصيدة مختلفة معنى ومبنى، خرجت على نظام الشطرين وكذا نظام الشطر الواحد، لقد جاءت نوعا من الفوضى التلقائية دون تخطيط ذهني مسبق وقد لقيت نجاحا هائلا، ثم تلتها قصائد أخرى وفية لنفس المشروع فجرت نقاشات نقدية ساخنة ووجيهة حول بنية البيت الشعري تفكيكا وتقطيعا وتوزيعا وحرية في النظم.
هذه القصائد حاولت إذن تعبيد المسافة بين المعمار الجديد والمعنى الجديد، غذ من المفارقة الشعرية أن تكون القصيدة جديدة بشكلها قديمة بمضمونها أو العكس. إلا أن انبهار الملتقى بهذه التجربة المغايرة سرعان ما خبا ويعزر أدونيس هذا إلى نظرة المتلقى المستمدة من مرجعية شعرية القرن 19 الفرنسي بوجهها الرمزي البرناسي وكذا فاليري وقد كانت نظرة جزئية لم تأخذ من تلك الشعرية منطلقاتها وإبعادها الفكرية الموضوعية وإنما اكتفت بأن تأخذ قيمها الشكلية وبخاصة الجانب اللفظي.
2- بين أدونيس والسياب:
استدعت مجلة "شعر" بدر شاكر السياب ربيع 1957 وقد كان وقتئذ أحد الرموز الساطعة في سماء الشعر قادما من أحراش جيكور وحاملا لكل هموم القصيدة وقد كان حدثا شعريا وثقافيا متميزا، كانت بيروت نقطة لقاء بين الرغبة في الخروج من الثقافة العربية للنظامية الإيديولوجية والرغبة في الإفصاح عن المكبوت الثقافي، ومثلما كانت دمشق عاصمة النهايات فقد كانت بيروت عاصمة البدايات في هذا الفضاء تم اللقاء الشعري مع السياب وطرحت قضية الشعر العربي برؤيا واسعة ونظر عال وقال السياب آنذاك "لو أردت أن أتمثل الشاعر الحديث لما وجدت أقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا وقد افترست عينيه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط هائل" يقول أدونيس معلقا على موقف السياب أن الحدس الشعري في هذا المتطور قرين الحدس الديني فالشعر والدين عند السياب توأمان وكما تلاشت الفوارق بين الغاية والوسيلة في الدين فقد تلاشت أيضا في الشعر فنحن نقرأ الشعر، ونكتبه لا بحثا عن منفعة مادية ولكننا نعلم أن للدين غاية نبيلة وكذلك الشعر.
ولم تقتصر السيرة الشعرية لأدونيس على ملاحقة التحولات في رحم القصيدة والقضاء الثقافي الذي تنفست من هوائه بل ذهب إلى أبعد من ذلك حافرا في ذاكرته المكلومة بفداحة وهشاشة العلاقات بين المثقفين مقارنا بينهم وبين نظرائهم في الغرب المتقدم وفي مختلف المجتمعات الحديثة حيث يركزون هناك اهتمامهم على التنقيب والكشف والتجريب المتواصل بينما في المجتمع العربي فالاهتمام يتجه إلى الشخص في نوع من النميمة الثقافية والتقييم السطحي العربي المتبدل غايته أما الاحتواء أو الاقصاء التوطين أو النفي هذا إضافة إلى إشارته إلى شقاء اللغة العربية حيث تتحول الكتابات إلى مستنقع تتعفن فيه الحياة العربية ويتساءل أدونيس بكل مرارة وحرقة فيما إذا كان ما يحدث في جسد الثقافة العربية من خرائب أهو ظاهرة خاصة حتى ليمكن وصفها بأنها عربية محضة ذلك أنها غير موجودة بمثل هذا التردي في أي بلد من بلدان العالم. ويعود أدونيس في سيرته الشعرية إلى الرد على الضجة التي افتعلها المتزمتون حول قصيدة النثر الذين ما يزالون يجترون القول أن شعراء مجلة "شعر" ومن حذا حذوهم سرقوا قصيدة النثر في الثقافة الغربية. غير أن أدونيس يرد عليهم بالقول لماذا لا يكون جميع المسرحيين والسينمائيين والرسامين والروائيين هم أيضا لصوص ومنتحلون لأجناس إبداعية لم يبتكروها ولم يبتكرها أسلافهم.
5-وختاما يوجه أدونيس رسالة إلى رفيق دربه الشعري يوسف الخال يختزل في بعض سطورها مسار الإحباطات والمعارك الثقافية كما يكشف فيها على أن توهج و(اكتمال) قصيدة النثر في الوقت الراهن ما كان ليشع ويشيع إلا بالاستمالة والمغامرة الإبداعية والتنذر للتحديث في الفكر العربي عموما فما أحوجنا إلى مثل هذه السيرة الأدبية من أجل التاريخ لملابسات وعوامل وأقضية الإختراق فعلا وانفعالا وتطورا.
عبده حقــي
0 التعليقات:
إرسال تعليق