1976 – 2016أربعون عاما في الصفحة الأولى
عبده حقي
ماتزال
تلك الليلة القائظة والبعيدة جدا في صيف 1976 تردد في مسمعي تمزقات وتأوهات ولادتي
الرمزية .. ولادة كاتب مفترض في حمأة سنوات العنفوان الشبابي المضطرم في أذهان جيلنا
الثوري اليافع.
وكان
قدري أن كان في العتمة إنبثاق طيف قصيدتي العمودية الأولى (همسات اللقاء) ذات صيف من
سنة 1976 .
داهمتني
من حيث لم أدر وأنا مغمض العينين .. مثل المطر العاصف .. مثل هبة إلهام أو وحي غريبين
حيث ألفيتني في ظلام الغرفة أنظم البيت تلو الآخر .. كالعنكبوت أمضي في نسيج القصيدة
جيئة وذهابا حتى مطلع الفجر حيث نهضت وارتشفت فنجان الشاي الأول في ذلك اليوم ثم شرعت
أنسخ تلك القصيدة اللغز على ورق الدفتر المدرسي .. وسمتها بعنوان "همسات اللقاء"
وبعثت بها في رسالة بريدية بريئة وعادية إلى برنامج "مع ناشئة الأدب" بالإذاعة
الوطنية المركزية والذي كان يشرف على إعداده الشاعر الأصيل الراحل إدريس الجاي .
مر
أسبوعان من الترقب والإنتظار على أحر من الشعر وأخيرا جاءت الولادة الرمزية إذ بثت
قصيدتي العمودية الأولى ذات ليلة من ليالي 1976 .
كانت
المذيعة تتلوها بيتا بعد بيت وكنت أشعر بانخطاف لذيذ كأنه سكرات حياة جديدة .. كانت
تلك القصيدة بكل تأكيد وصدق هي صرخة البداية ، بل هي بداية كل البدايات الأدبية والثقافية ...
بعد
نهاية البرنامج خرجت للتو من الدار مهرولا .. وجدتني أمشي حثيثا بين دروب الحومة وأنا
على وشك أن أهتف كالمخبول في الناس العابرين أو الواقفين : ألم تسمعوا قصيدتي هذا المساء
على الأثير أيها الأحياء الموتى ؟ أفيقوا الليلة .. لاتناموا الليلة ، وسجلوا أنني
منذ الآن صرت شاعر قبيلتكم الذي سوف تفخرون به في معارككم من دون شك ...
ومنذ
ذلك التاريخ إلى اليوم ما أزال أتساءل ، ماذا لو كنت قد إستسلمت للنوم في تلك الليلة
السبعينية السحيقة ولم أتحايل على الأرق بنظم قصيدة عمودية كي أبحث بين تلافيفها على
غفوة هاربة مني بعناد .
وهل
كانت يدي التي كتبت الرسالة وأودعتها في صندوق البريد في الصباح هي من اقترفت كل هذه
الأوراق فوق مكتبي على مدى أربعة عقود .. وماذا كنت سأكون اليوم بعد أربعين عاما لو
كان مآل رسالتي مثواها الأخير في سلة المهملات .؟ هل كنت سأمزق دفاتري وأكسر أقلامي
وأؤجل أحلام هوايتي إلى موعد وفضاء رمزي آخر لا أدري تاريخهما بالضبط .
أسئلة عديدة تتفجر في حقل كتابتي الآن .. أهي قدر الأقدار كان منقوشا منذ الأزل في
لوح حياتي المحفوظ ؟ أم هي تواطؤ جميل وقاس ومدبر أيضا حاكه شيطان الشعر في
عبقر النفس الأمارة بالبوح .. أم هو ضرب من اللعب الخيالي يكبر شغبه الطفولي في جوانيتي يوما بعد يوم من دون أن يشيخ أو يموت ؟ أم هو ميثاق سري وقعت عليه
ذائقتي الفنية في لحظة سهو عابرة بينها وبين الشعر.؟
أربعون
عاما إنصرمت .. أعلم أنني كنت حاضرا لكن كثيرا في الغياب .. أشك كل لحظة ألف مرة فيما
كتبته إن كنت حقا كتبته بيقظة ووعي أم بمس دفين أم كل ماكتبت هو من كتبني سطرا بعد
سطر منذ ولادة تلك القصيدة العمودية الأولى إلى نقطة النهاية هاته في هذا المقال.
0 التعليقات:
إرسال تعليق