الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مارس 31، 2016

كيف تؤثرالرقمية في الإبداع الأدبي :ترجمة عبده حقي

كيف تؤثرالرقمية في الإبداع الأدبي :أريان مايير* Ariane Mayer
ترجمة الكاتب والمترجم المغربي عبده حقي
مقدمة :
يتساءل نيقولا كارNICOLAS CARR في مقاله تحت عنوان (هل إستطاع جوجل أن يجعل منا بشرا سذجا ) كيف تؤثر الأسانيد في بنيات ومحتوى الكتابة الأدبية ..؟
وبناءا على هذا السؤال المركزي يقدم مقالا عن الفيلسوف الألماني نيتشه الذي تمكن سنة 1882 من اختراع آلة كاتبة من أجل تجاوزصعوباته البصرية التي صار كان يعاني منها ، وقد مكنته هذه الآلة فعلا من تجويد خط كتابته التي تدهورت بسبب كثرة تركيز نظره على بياض الصفحة الورقية . غيرأن هذا الإختراع سرعان ما أسهم بشكل لاواعي ومن غير قصد في التأثير على أسلوب نيتشه وتغيير نمطه الكتابي حسب رأي أحد الأصدقاء الفلاسفة النقاد.
إن كتابات نيتشه النثرية ذات الخصوصية المتفردة صارت بعد هذا الإختراع أكثر إيجازا ، تشبه إلى حد ما رسائل البرقيات التلغرافية الموجزبل يضيف هذا الناقد الفلسفي أن إستعمال الآلة الكاتبة قد ساعده على بلورة خطاب نيتشي ذي رؤية وملمح جديدين .
وخلاصة هذا المثال النيتشي المتميز أن أية آلة كاتبة بالرغم من مظهر وجودها المحايد واستقلالها التام عن المادة النصية التي تسهم في خلقها فإنها ــ الآلة ــ تمارس بشكل خفي تأثيرها المباشر في شكل بل ومحتوى النص الأدبي أيضا... ومن جانب آخر إن هذه التقنية قد أحدثت تحولا جليا في عمق الفلسفة النيتشية حسب رأي أحد أخصائيي الميديا (فريديريك كيتليرFRIEDDRICH KITTLER) الذي وصفها في جملة  واحدة (براهين قوية من شذرات وأفكار هامة من خلال اللعب بالكلمات)
لقد أسهم إختراع المكتبة سنة 1454 بالإضافة إلى إنجازات جماعة (لوليبو OuLiPo) بتحقيقها لعملية الذمج بين الأدب والرياضيات وكل هذا بصم الكتابة بشكل عام بملمح آخر مختلف عما سبقه .
إن هذه الجدلية بين الفن وأسانيده تستحق منا اليوم بكل تأكيد مساءلتها من جديد خصوصا في عصر بات فيه الكتاب ينعطف وبلا رجعة نحو مستقبل الرقمية بامتياز.
منذ بداية سنة 2000 صار هناك تآصر بين الكتاب المطبوع والكتاب الرقمي الذي يسمى كذلك الكتاب الإلكتروني أو(الإيبوك e-book ) الذي تم إختراعه بفضل التزاوج بين إختراعين تقنيين هامين هما : المعلوميات التي أتاحت إمكانية القراءة على شاشة الحاسوب والعنصر الثاني يتعلق بالإنترنت .
هذا الإختراع غير المسبوق الذي دشن سنة 1998 حيث إخترع كل من (جاك أتالي Jacques Attali) و(إيريك أورسينا Erik Orsenna) ال (سيبوك Cybook) كأول جهاز خاص بقراءة الكتاب الإلكتروني الذي لم يلق وقتئذ رواجا تجاريا كما كان متوقعا . غير أنه مع إنتشار شبكة الويب web وخصوصا الويب في نسخته الثانية web2.0 التي أغنت الشبكة العنكبوتية بفضل مواقع التواصل الإجتماعية مما أدى إلى استفادة الكتاب الإلكتروني من تجويد تقني وترويج تجاري ملفت للنظر. ومما لاشك فيه وحسب بحث أجراه مجلس التحليل الإستراتيجي في فرنسا فإن الكتاب الإلكتروني لم يحقق سوى 1 % من رقم المعاملات . إن هذا الرقم الهزيل مرتبط أساسا بحجم السوق الفرنسي الواعدة حيث لايتعدى معدل عدد الكتب الإلكترونية سوى 1 من 10 على العموم . أما في الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبرأول سوق للكتب الإلكترونية في العالم فإن المعدل قد انتقل من 1,2% مع نهاية 2008 إلى 1,8% مع نهاية 2011.
أما ابريطانيا فإنها تبقى البلد الأوروبي الوحيد حيث يسجل أقوى تحول للكتب الورقية إلى كتب إفتراضية . ففي سنة 2012 بيع مايناهز13% من الكتب في صيغة ملفات Files . وحسب توقعات المؤسسة الأوروبية للميديا والإتصالات المعروفة اختصارا ب IDATE فإن هذه الأرقام قد عرفت تصاعدا في المدى القريب لكي تصل المعدلات إلى 35% في الولايات المتحدة الأمريكية و21% في ابريطانيا في سنة 2015 .
إذا كان فعل القراءة والكتابة الرقمية في أولى سنوات ولادته التكنولوجية فإن كل المؤشرات تؤكد نموهما وتقدمهما في المستقبل بكل تأكيد .
إن تدشين هذا القطاع الجديد الواعد في مجال الكتب الإلكترونية ينطوي على عديد من الرهانات التي يمكن أن نصنفها في ثلاث مستويات :
بداية إن الأمر يتعلق ب (الكتاب) كما هو متداول بين أيدينا وعلى رفوف مكتباتنا والذي صار يفقد بعض خاصياته الورقية مثل الرائحة والملمس وحركة تقليب الصفحات ثم الخاصية الثانية وتتعلق باستغناء القارئ عن فضاءات التخزين والإعتماد فقط على وسيط رقمي متفرد يحمل هوية الكتاب في مفهومه العام مما جعل هذا الأخير في موقع مساءلة باعتباره عملا فكريا وباعتباره أيضا سندا وأخيرا كتابا إلكترونيا يوفرإمكانية البحث في مكونات وبنيات النص وأيضا في تشعباته وربطه بشبكة الويب .
من جهة أخرى إن السوق الإلكترونية تعرف سرعة حثيثة عبر التقلبات الواقعة في سلسلة صناعة الكتاب ، بمعنى آخر على مستوى الفاعلين الجدد الذين يجتهدون في أبحاثهم من أجل خلق قيمة مضافة للكتاب . وكما هو معلوم ففي سلسلة صناعة الكتاب الورقي فالمؤلف يقدم مخطوطته للناشر الذي يعرضها على لجنة الإنتقاء فالتصحيح ثم المعالجة وأخيرا إعداد الصفحات ... إن هذا المخطوط وبعد إرساله إلى المطبعة ثم إلى مصمم الغلاف يأتي دورالناشرالذي يحدد شروط النشر والتوزيع سواء بالنسبة للمكتبات أوالأسواق التجارية الكبرى ... أما فيما يخص المكتبات فإن مهمتها تبقى ضمن هذا الإطار التقليدي تنحصرفي الحفاظ على السلامة المادية والفكرية للكتاب والحرص أيضا على الرقي بعلاقته مع عموم القراء .
إلى جانب هذه السلسلة الصناعية التقليدية للكتاب يأتي اليوم دورالسلسلة الرقمية التي جاءت بفاعلين جدد ، كما وضعت في نفس الوقت الفاعلين الورقيين القدامى موضع تساؤل محرج وهام جدا . من بين هؤلاء المتدخلين الجدد يوجد مهندسو أسانيد القراءة الرقمية وصناع حواملها الإلكترونية مثل (كيندل Kindle) التابع لشركة أمازون و(سيبوك Cybook) التابع لشركة بوكين و(كوبو Kobo) التابع لشركة فناك بالإضافة إلى هؤلاء هناك صناع الهواتف الذكية وموزعو الكتب الإلكترونية مثل (جوجل بوك Google Books) و(نوميلوغ Numilog.com) وموقع (إيماتيريال Immatériel.fr ) والموزعين الإلكترونيين مثل موقع (فناك Fnac.com ) و(أمازون Amazon.fr) و(إيتون ستور iTunes Store) التابع لشركة آبل و(موبيبوكيت Mobipocket.com ) وغيرها ... إن هؤلاء الفاعلين الجدد في مجال صناعة ونشر الكتاب الإلكتروني قد وضعوا صناعة الكتاب الورقي في موقف لاتحسد عليه وفي مقدمتهم مهنيي المطابع والناشرين الذين باتوا يعيشون في زمن موسوم بإعادة هيكلة جديدة لبنياتهم التحتية الصناعية وكذلك في المكتبات الورقية التي باتت من جهتها تعيش تنافسية شرسة مع المكتبات الرقمية المجانية التي تضع رهن إشارة القراء الشبكيين الكتب والمؤلفات التي لاتخضع لأي قانون من قوانين حقوق النشر مثل مشروع (غوتنبرغ Gutemberg) و(غاليكا Gallica) و(جوجل بوك Google Books ) وكتب العلوم الكلاسيكية القديمة ...
بالإضافة إلى هذه السلسلة من القيم الجديد فقد شملت النتائج الإيجابية للكتب الرقمية الجانب الجمالي والإستتيقي كذلك .
أما فيما يخص ثالث تحول عرفته صناعة الكتاب الرقمي فيتعلق بفعل القراءة وخصوصا على مستوى عاداتها وزمنها أي وقت تصريفها الفعلي . وكما أكد ذلك كل من (نيقولا كار Nicolas Carr) و(ماريان وولف Maryanne Wolf ) عالم النفس بجامعة   Tufts بالولايات المتحدة الأمريكية أننا لانقرأ بنفس الكيفية على الورق مثلما نقرأ على اللوحة الإلكترونية ... وإذا كان (نيقولا كار) يرى في القراءة الإلكترونية بعض الجوانب السلبية مثل فقدان التركيز والزيغ اللائرادي عن القراءة الخطية العادية بسبب التيه والضياع في تشعبات الشبكة العنكبوتية وروابطها المغرية على حساب الإبحارالهادف في عمق النص فإن عالم النفس (ماريان وولف) يقترح من جانبه لتجاوز هذا الخلل الشبكي تفسيرا آخر مرتبطا أساسا بالخلايا الدماغية . فانطلاقا من كون أن دورتنا البيولوجية الدماغية قابلة للتطويع والتكييف بشكل مرن وطبيعي في تعاطيها لوسائل الإتصال الحديثة فإن هذا يوضح بشكل لاجدال فيه التأثير السلبي للقراءة الشبكية على قدراتنا القرائية العميقة والمفيدة وأيضا على مستوى منظومة تفكيرنا . إن عاداتنا القرائية التقليدية في طريقها إلى التحول الحتمي بسبب إنزياحها عن الخطية الورقية ونزوعها إلى تفضيل الإبحار الشبكي المفتوح على عديد من إحتمالات القراءة ومصادر وحدة الموضوع المتعددة .
الأمر يتعلق هنا أيضا بتحول في وقت ومكان القراءة كفعل وسلوك بات يتطلب كثيرا من الدقة والتركيز موازاة مع تنقل القارئ في حياته اليومية من مكان إلى آخر بل من بلد إلى آخر.
أما السبب الرابع الرئيسي والمتعلق بتأثير الكتاب الإلكتروني على عاداتنا القرائية والذي يهمنا أكثرفي هذا المبحث فإنه يرتبط بالجانب الجمالي عند المؤلف بحيث إذا كنا لا نقرأ بنفس الكيفية على مختلف الأسانيد والحوامل الإلكترونية فإن الكتابة من جانبها على غرار ما تحدثنا عنه قبل قليل حول آلة نيتشه فإنها بدورها يمكن أن تتغير بسبب التحولات التقنية التي يتعرض لها الكتاب عبر الزمن .
لكن ماذا نعني بالكتابة أولا ؟ إنها قبل كل شيء حركة فيزيقية نمارسها بهدف تسطير حروف ثم كلمات وأخيرا جمل وفقرات بفضل عملية الرقن على أزرار لوحة المفاتيح keyboard
هناك عديد من الأمثلة التي تثبت أن هذه المفارقة الحركية بين فعلي الكتابة بعضو(اليد) والقراءة بعضو(العين) قد تؤثر في العملية الإبداعية أيضا وكمثال على ذلك فالكاتب (فرانسوا بون François Bon ) يحكي في شهادة له نشرها في موقع المكتبة الوطنية الفرنسية BNF تجربته الأدبية بالكتابة على الحاسوب .
يقول فرانسوا بون (إن معالجة النص معلوماتيا يعتبر طقسا كتابيا جديدا لامثيل له في السابق وهو يختلف عن معالجته على الورق ويضيف بأن أول شيء تم التخلص منه نهائيا هو ركام أوراق المسودات . لم يعد النص المكتوب بتلك المساحة التي تقطعها جرات الأقلام أو التي نقصها ونستثمرها أو نتصفحها وإنما النص هنا في هذا الفضاء المعلوماتي صارهو كل هذا الذي يعبر أمامنا على شاشة الحاسوب .)
لقد إنتهى زمن التسويد والمسودات وبانتهائه إختفت بعض الطقوس المتعلقة بعملية التشفيروالأكودة لكن في المقابل طفت على السطح مخاطر أخرى يضيف (نيقولا بون) : لقد تبدى الخطر منذ البداية لأننا كنا نكتب تحت قواعد الكتاب الورقي إذ لا يمكننا تصحيحه بعد صدوره في المكتبات ، لكن المفاجأة بعد ذلك كانت قوية تتعلق بطفرة جديدة من الوسائل الإبداعية المتاحة للكاتب منها شساعة المساحة الرقمية بل لامحدوديتها مقارنة مع محدودية الورق والتصحيح الأوتوماتيكي الفوري للأخطاء الإملائية والنحوية والتركيبية وسهولة تعديل النص من دون تشطيبات وإنجازعملية نسخ لصق (copy-paste ) وبالإضافة إلى كل هذا هناك عادات جديدة لم نعهدها من قبل ، ففي الماضي كنا نحمل معنا كراساتنا ومخطوطاتنا الورقية غيرأننا اليوم بمجرد ما نفرغ من عملنا الأدبي بعد مراجعته النهائية نقوم بتسجيله أوحفظه في قرص أو مفتاح التخزين (يوسبي USB) Universal Serial Bus وأينما تنقلنا أوسافرنا ترافقنا كتاباتنا وإبداعاتنا ووثائقنا المعروفة أو السرية وباختصار شديد فإن تغيير السند قد حطم كثيرا من الأنماط الكتابية التقليدية وخلق أخرى حديثة ...
إن هذه الطقوس المعلوماتية الجديدة قد أسهمت في تغييرعمل الكاتب بل إنها جاءت بإنتاجية أكثر خصوصا عندما يكون الكاتب مرتبطا بالإنترنت حيث يمكنه إنجاز كثيرا من البحوث من دون أن يكون مرغما على التنقل إلى المكتبات العمومية أوالخاصة .
من جانب آخر فالكتابة في نهاية المطاف تصير نتاجا لهذا العمل . إن الكاتب هنا يكتب عمله بنفسه ، وبالتالي علينا أن نطرح السؤال التالي : إلى أي حد يؤثر السند الجديد في النص الأدبي ، في شكله كما في محتواه ؟ وإذا كان الإنتقال إلى سند الكتاب الإلكتروني e-BOOK يثير كثيرا من التخوف لدى عديد من الكتاب فإن جلهم في المقابل قد صار لديهم هذا الكتاب مصدر إلهام وتطوير لكتاباتهم ومن بين هؤلاء الكاتب (وليام جيبسون William Gibson) ففي حوارأنجز سنة 2007 مع شركة أمازون تحت عنوان (الكتابة في عصر جوجل ) تمحور حول كتابه الأخير الموسوم ب (صفر قصة Zero History) يثير فيه مثالا عن شريط فيديو حول البطاريق الطائرة (Flying Pinguins ) الذي عثر عليه في موقع التواصل الإجتماعي اليوتوب Youtube والذي أوحى له بمشاهدة بعض المدن وأمكنتها والإطلاع على تفاصيلها السياحية ثم قام بإدراجها في كتاباته بوصف دقيق مع أن الكاتب لم يسبق أن زارها في واقع الأمر وهذا ما اصطلح عليه (جيمس بريدل James Bridle) ب (واقعية الشبكات الإجتماعية ) التي لايمكن إنكار تأثيرها الحقيقي في الأسلوب السردي كما في الحبكة : وهذا يعني أننا لم نعد نكتب نفس القصص على شاشة الحاسوب المتصل بالإنترنت كما كنا نكتبها على الورق من قبل ...
إن أشكال الكتابة تتغير وتتحول هي أيضا على غرار ما عرفته بعض الأجناس الأدبية الجديدة التي استلهمت خصوصياتها من الكتابة على (الأون لاين online)
ومما لاشك فيه أن رقمنة الكتب توحي بل إنها تشجع على اعتماد الأشكال الكتابية القصيرة بل حتى الميكروروائية micro-roman  والرقمنة أيضا تسهم في تغيير ريتم وإيقاع النشرالذي يصير بفضلها نشرا جاهزا عبر حلقات على شكل الروايات المسلسلة التي عرفت مجدها في القرن 19 . ويمكن بهذا الصدد أن نضرب مثالا بالراوية الأخيرة للكاتب (ديديي فان Didier Van Cauwelaert) الموسومة ب (طوماس دريم Thomas Drimm ) وهي عبارة عن عمل أدبي يتكون من حلقات عمدت دار النشر(سمارت نوفيل SmartNovel) على نشرها على الهواتف المحمولة فقط .
وباستلهام نموذج الروايات المسلسلة التي نشرها على حلقات في صفحات الجرائد اليومية كل من (بالزاك Balzac) و(فلوبير Flaubert) أو(جول فيرن Jules Vernes) فإن هذا الشكل من النشر على حلقات بات يؤثر أيضا على شكل القصص الشبكية في إيقاعاتها ، في تصاعد حركاتها وفي عنصر التشويق فيها .
في مستوى ثالث فالكتابة لاتعني كيف نكتب فحسب أو ماذا نكتب وإنما من يكتب أيضا . والسؤال المطروح هو المتعلق بالكاتب نفسه هل سيظل المؤلف هو الكاتب المفرد والوحيد للرواية أم أن الربط الشبكي سوف يمنحه إمكانية الإبداع التفاعلي الذي سوف يؤدي حتما إلى تحرير فعل الكتابة الفردية من فاعلية الكتاب ؟ فالقارئ الذي كان بالأمس القريب متلقيا (سلبيا) قد صار اليوم بفضل هذه التفاعلية (interactivity ) الرقمية طرفا نشيطا وهاما في عملية الإعداد البنائي للنص السردي خلافا لما دأبت عليه العلاقات التقليدية بينهما ... والمثال النموذج في هذه السلسلة الإنتاجية الجديدة للنص الرقمي المتعدد يبدو جليا في الفكرة المحورية لرواية (بألف يد)( à mille mains) التي نجدها في عديد من المدونات . إن هذه الرواية بتجديدها لأسلوب الكتاب في فضاء الشبكة العنكبوتية بمشاركة عديد من الكتاب الذين ساهم فيها كل واحد منهم على حدة بشذرة أو مقطع سردي ينسجم أسلوبيا وموضوعاتيا مع الشذرات السابقة وبالتالي أصبح كل مشارك كاتبا وقارئا في نفس الوقت .
إذن أليس من الموضوعية أن نتساءل اليوم ما إذا كان مفهوم المؤلف قد تأثر بهذا التحول وصار فضفاضا أكثر فأكثر إعتبارا لهذا الشكل الكتابي الإجتماعي المفتوح الذي نجح في تحقيق مصاهرة بين دمقرطة النشر الذاتي وإمكانيات الإنترنت .
الإشكال الحقيقي اليوم لايتعلق فقط بسؤال (من هو المؤلف الرقمي ؟) وإنما بات نفس السؤال ينسحب أيضا على الناشر (من هو الناشر) وعلى المكانة الجديدة التي بات يحتلها على مستوى الإخراج الفني والجمالي للكتاب ...
لقد بات من واجب الناشرين التقليديين الإسراع اليوم قبل أي وقت مضى إلى التأهيل المهني في مجال العلوم الرقمية الجديدة من جهة ومن جهة أخرى على المؤلفين القيام بأدوارهم التي كانت موكولة إليهم . فعلى سبيل المثال لاالحصرتم إحصاء زهاء 250000 كتابا إلكترونيا نشرها المؤلفون أنفسهم نشرا فرديا autoédités سنة 2011 ما يعادل مجموع ما أنتجه الناشرون الأمريكيون . إن إعادة تحديد مفهوم المؤلف الرقمي يطرح إشكالين هامين : الإشكال الأول يرتبط بالعلاقة بين المؤلف والقارئ ثم بين المؤلف والناشر. ومن البديهي القول أنه إذا كان التطورالإلكتروني قد ساعد كثيرين في عملية النشرالذاتي الفردي فإنه أيضا قد أسهم في تغيير العلاقات وإعادة توزيع الأدوار بين الأطراف الأساسية الفاعلة في هذه العملية .
عموما يبقى سؤالنا الإجمالي هو إلى أي حد إستطاع الكتاب الإلكتروني أن يؤثر في الإبداع الأدبي ؟
وسوف نبحث في تداعيات هذا الإختراع التكنولوجي على الجانب الجمالي والإستتيقي في ثلاث مستويات : أولا العملية الإبداعية والمحتوى والعلاقات التي يوظفها المؤلف مع الأطراف الأخرى المتعلقة بالكتاب (القارئ ـ الناشر) ولتحقيق ذلك علينا بداية تجنب عائقين أو بالأحرى موقفين هما : من جهة أولى التخوف المبطن الذي يرفض جميع التحولات الضرورية للكتاب ومن جهة ثانية الموقف المتفائل بعالم التكنولوجيا والإتصال والذي يجتهد في إيجاد الحلول القمينة بالرقي بالكتاب والفاعلين الأساسيين في صناعته ...
سنحاول مقاربة فرضيتنا هاته إنطلاقا من أن للرقمية تأثيرا حقيقيا وهاما جدا في الإبداع الأدبي وفي مواجهتها مع واقع تجدد الأشكال الجمالية والتفاعلية بين المؤلف والقارئ والناشروقبل هذا وذاك بموضوع الشأن الأدبي العام المتعلق بالكتاب الإلكتروني e-book
تحولات الكتاب (البضاعة)
ماهو الكتاب الإلكتروني ؟ وهل هو في حقيقته كتاب أم شيئا آخر؟ إن تحويل الكتاب من شيء مادي إلى شيء إفتراضي رقمي يعتبر إختراعا مستجدا وبالتالي فإن الأمر يتعلق بهذا الصدد بشيء ملتبس وغامض وإن شئنا أن نقول عصي على التحديد والتعريف ...
إن غموض والتباس مفهوم الكتاب الإلكتروني جعله لايحظى بطابع المشروعية من أجل فرض وجوده مما جعله في وضع تجاهل إن لن لم نقل تهميش مقصود من عاداتنا القرائية المؤلوفة .
إلى حدود ينايرمن سنة 2012 بلغت الضريبة على القيمة المضافة الخاصة بالكتاب الإلكتروني في فرنسا 19.6% ما يعني بكل وضوح أنه لم يستفيد من التخفيض الضريبي مثله مثل البضاعات والمنتوجات المطبعية والمكتبية الأخرى . والكتاب الإلكتروني لم يتم الإعتراف به ككتاب لايختلف في دوره عن الكتاب الورقي إلا قبل شهور قليلة ما أدى في الأخير إلى التعامل والتعاطي معهما معا على نفس القدروالأهمية والفاعلية .
وحسب نص هذا القانون الجديد الخاص بالكتب الإلكترونية الصادر بتاريخ 26 ماي 2011 والذي يعتبر تتمة للقانون الصادر بتاريخ 10 أغسطس 1981 الخاص بتحديد أثمنة الكتب فحسب هذا القانون المعدل فإن الكتاب الإلكتروني يعتبر (إنتاجا فكريا) يمكن أن يكون عملا فرديا أو عملا جماعيا ، مركبا من عدة مكونات وعناصر معلوماتية ورقمية كما يمكن تسويقه في شكل رقمي أو ينشر في شكل مطبوع ورقيا أو يمكن نشره أيضا ككتاب ورقي معزول عن مكوناته الرقمية التفاعلية الخاصة .
يقر قانون العاشر من نونبر2011 على أن الكتب الفائقة ـــ أي المتطورة رقميا وإلكترونيا ـــ التي سنعود إليها لاحقا قد تم إعتماده في إطار القانون الحالي لكن بشرط أن تكون المعطيات التي تحويها محصورة في العدد والأهمية ومكملة للكتاب الورقي وهادفة إلى تبسيط وتسهيل الفهم والمعرفة بشكل عام.
من الناحية القانونية إن الكتاب الرقمي يعتبر كتابا مثل باقي الكتب لكن وفق شروط معينة من بينها إمكانية الطبع وبالتالي فإننا إذا ما نظرنا إلى أولوية وحدة المضمون فإن الكتاب الرقمي يختلف عن الكتاب الورقي في عديد من المكونات والمحاورالأساسية على مستوى الشكل والمضمون معا.
يتعلق الأمر تأسيسا على كل ما سبق برفع اللبس الذي يكتنف مفهوم الكتاب بشكل عام . فمنذ إختراع مخطوط (الكوديكس codex) في العصرالمسيحي الأول كان ومازال الكتاب ينهض على حقيقتين تلتئمان معا في حقيقة واحدة : إن الكتاب باعتباره مجموعة من المعطيات الخاصة التي تشكل المحتوى الأدبي لأي عمل كتابي وهو أيضا تلك البضاعة المادية الملموسة التي تضم بين دفتيها موضوعا مطبوعا ، وهو أخيرا حزمة من الأوراق نقلبها بين أيدينا . ومن دون شك أنه مع إختراع الرقمية حصل تمايز إن لم نقل إنفصال بين الحقيقتين السالفتي الذكر. فمن جهة هناك النص السردي المرقون ومن جهة أخرى هناك الأدوات الرقمية والتكنولوجية المتعددة التي يتمظهر من خلالها هذا النص . هناك فرق بين الكتاب المؤلف (بفتح اللام) والكتاب (البضاعة) .
يتعين علينا إذن دراسة المتغيرات التي تؤثر في الكتاب (البضاعة) كما نعرفه ويمكن إجمالها في أربعة نقاط :1) أسانيد القراءة 2) أشكال القراءة 3) منصات الولوج إلى الكتاب 4) المكونات الجديدة التي تبتدعها الرقمية .
تعدد أسانيد القراءة
إن فعل قراءة كتاب كان إلى حدود السنوات الأخيرة يعني إقتناء شيء مطبوع ، حيث العناصر الوحيدة القابلة للتعبيرفيه هي تلك المتعلقة بالإعداد والإخراج الورقي وفق منهجيات النشر لدى كل دارللنشرعلى حدة .
والقارئ في الوقت الراهن يجد نفسه أمام عديد من الأسانيد فبالإضافة إلى الكتاب الكلاسيكي المطبوع ورقيا هناك الملفات files التي يمكن تحميلها وقراءتها على حامل خاص على شاشة الحاسوب أو جهاز السمارتفون أو أية لوحة إلكترونية قارئة .
وسنحاول الكشف عن دورجل هذه الحوامل القارئة وتأثيرها الواضح على الكتاب (البضاعة)
مما لاشك فيه أن اللوحة الإقرائية (Laliseuse) هي التي تغزو في الوقت الراهن السوق الرقمي. فحسب إستطلاع للرأي أجري في فرنسا بتاريخ 16 آذار2012 حول إستعمال الحوامل والأدوات الرقمية فإن نسبة قراء الكتاب الإلكتروني قد ناهزت 92% . وعلى سبيل المثال لاالحصر فقد بلغت مبيعات اللوحات الإلكترونية مليون وخمسة وأربعون ألف وحدة سنة 2011 . إن هذا السند الرقمي الأكثر إستعمالا يتميز بخاصيته التقنية ووظائفه الخاصة . فعلى المستوى التقني فإن هذا الحامل القرائي يقوم في نفس الوقت بتخزين المعطيات وقراءة النصوص في صيغتها الرقمية وهذا ما يجعل منه كتابا ومكتبة متنقلة ، بالإضافة إلى كون النص مرقمنا فإن هذا الحامل قد يتيح وظائف أخرى خاصة على السند الإلكتروني منها على سبيل المثال إمكانية التبئير والزومجة (zoomage) على مقطع أوشذرة أو القيام بتعديلات على الألوان والإضاءة أو التسطير على المفردات والفقرات أو تدوين أفكار أو إدراج توقيعات أو إنتقاء صفحات . كما يمكن أيضا من الولوج إلى محتويات ومواضيع خارج عن مضمون الكتاب مثل البحث في القواميس عن معاني الكلمات أو ترجمة بعض المفاهيم ...
أن يبقى وفيا للكتاب الورقي هذا هو المبدأ العام الذي يتأسس عليه هذا السند الإلكتروني . وبالرغم من كون القارئ يتوفر على عديد من الإختيارات لعرض النص المرقون ، فالجهاز القارئ يروم إلى حد ما تقليد الكتاب الورقي .
نظريا ليس هناك فرق طبيعي لا في العمل ولا في طريقة الإقراء بين نص مطبوع ونص محمل على جهاز للقراءة .
وهكذا تمكنت أشهر ماركات القارئات الإلكترونية المتواجدة في السوق مثل (كيندل Kindle أمازون ــ رايدر Reader التابع لشركة سوني ــ سيبوك دوبوكي Cybook de Bookee التابع للموزع فناك ــ نوك Nook التابع لمكتبة بارنس) تمكنت من أن تقوم مقام الكتاب الورقي . لايختلف وزن وحجم هذه القارئات الإلكترونية عن كتاب الجيب pocket book كما أن شاشاتها وحبرها الإلكتروني لايستهلك سوى قدرا قليلا من الطاقة مما يتيح لهذه القارئات إستقلالية أوسع عن المصل الكهربائي المنزلي .
يحقق أيضا جهاز القارئ الرقمي نفس المتعة والراحة التي يحققها الكتاب الورقي ، كما أن طرائق القراءة التي يعرضها سواء على السمارتفون أو الألواح الإلكترونية هي طرائق مختلفة ومتنوعة نستطيع تطبيقها في جل الوضعيات ... وبصرف النظرعن بعض خصوصيات الورق مثل الرائحة وحركة اليد التي تقلب الصفحات فإن جهاز القارئ الإلكتروني يتجاوز في مستوى آخر هذه التقاليد بفضل مستجدات عادات جديدة مثل النقر أو الضغط على الروابط والقدرة الفائقة على التخزين مما يجعل من النص السردي الرقمي يبدو إلى حد ما الوجه الآخر للنص الورقي .
أخير يبقى السؤال الضاغط والمحوري قائما : أي قدر ومستقبل مبهم يلاحق الكتب الورقية ؟ إذا كان الكتاب الرقمي قادرا على تحقيق كل وظائف الكتابة كلما طعمناه بتطبيقات تقنية وعملية جديدة ، فهل سيختفي الكتاب الورقي كما لو أنه قد إستنفذ دوره التاريخي الذي أداه منذ خمسة قرون وفسح المجال للدورالقادم للكتاب الإلكتروني .
ودعونا نجيب على هذا السؤال بسؤال آخر إعتمادا على ماجاء في مقال للكاتب (كليف طومسون Clive Thomson) الموسوم ب (مستقبل جديد للكتاب) الذي نشرته المجلة الرقمية (wired) . إن قلق موت الكتب الورقية يثير في رأيه نفس السؤال المطروح منذ سنوات الثمانينات حول مقولة (قصة مكتب من دون ورق) بحيث أن سنوات الثمانينات قد شهدت تصاعدا في ظاهرة معالجة الكتابة معلوماتيا كما عرفت ظهور خدمة البريد الإلكتروني مما جعل عديدا من المهتمين يتوقعون إختفاء الورق في المدى المتوسط . لماذا إذن اللجوء إلى الطباعة الورقية إذا كان في إمكاننا نشره إلكترونيا ؟ يتساءل (كليف طومسون) . لقد حدثت طفرة متميزة في استعمال الورق مثل أي إنفجار بحيث أن المؤسسات التي عمدت إلى إستعمال البريد الإلكتروني قد وجدت نفسها تستهلك مزيدا من الورق بنسبة بلغت 40% فالبرغم من وجودنا في عالم محفوف من كل جانب بشاشات الأجهزة الإلكترونية فإن الورق مازال قادرا على أن يمنحنا إمكانية خاصة لتنظيم وتقاسم أفكارنا ... يجب الأخذ بعين الإعتبار هذه البديهية التكنولوجية التالية : كلما عمدت الإختراعات الإلكترونية إلى تسهيل تقنية أو تطبيق ما فإن جل المستعملين يطبقونه تلقائيا وعفويا من دون تركيز في أغلب الأحوال .
كل موظف في مكتب من المكاتب يملك حاسوبا وآلة طابعة باستطاعته صناعة وتوزيع بطائق للدعوات رائعة وجميلة جدا ونفس الشيء يحدث اليوم في مجال الكتاب يضيف (كليف طومسون) . فالكتاب الورقي والكتاب الرقمي لا يمكن أن يعوض أحدهما الآخر، لكنهما سوف يظلان سندان متكاملان وتفكير هذا الطرف أو ذاك في تبخيس دور أي واحد منهما فلن يعمل سوى على جعل الثاني أكثر جاذبية وأكثر ندرة وأهمية .
إن الرقمنة باستطاعتها أن تناوش وتهدد الطباعة الورقية لكنها من دون شك لن تلغيها أو تقتلها بصفة نهائية ، لأن الورق سيبقى حاضرا بيننا وسيظل كذلك شئنا هذا أم أبينا في بعض مناولاتنا وتعاملاتنا اليومية بشكل يستحيل على أي إختراع آخر أن يعوضه أويقوضه . بل إنه بقدر ما سيتصاعد نشر الكتب الإلكترونية وإنتاجها فإن مجموع الكتب الهامة الموجودة في رفوف مكتبات بيوتاتنا سوف تحظى منا مع مرور الزمن بالمزيد من الإهتمام والرعاية ...
ترجمة عبده حقي
المرجع:
http://www.thecampaign-hec.com/IMG/pdf_Prix_Memoire_Grande_Ecole_Ariane_Mayer.pdf


0 التعليقات: