استطلاع حول العاصمة الإسماعيلية "مكناس" أنجزه عبده حقي
بعنوان مكناس بين تاريخ مشرق وحاضر مقلق
تقديم
وضع صورة لخارطة المغرب
إنها مدينة مكناس التي تقع في قلب جغرافية شمال المغرب
في موقع استراتيجي يجعلها في ملتقى أهم الطرق الرئيسية الوطنية ومحورا هاما على مستوى
الحركية الإقتصادية والسياحية أيضا . فهي لا تبعد عن مدينة زرهون التي يوجد بها
ضريح مؤسس الدولة الإسلامية بالمغرب إدريس الأكبر سوى ب 30 كيلو وعن العاصمة
الرباط سوى ب 140 كيلو شرقا وعن مدينة فاس جارتها العاصمة الروحية والعلمية للمملكة
سوى ب 60 كيلو جنوبا وعن مدينة طنجة بوابة المغرب على أوروبا سوى ب 350 كيلو.
تختلف الروايات التاريخية حول تسميتها "مكناس"
فقد أشار بعض المؤرخين إلى أن أصل الإسم يعود إلى كلمة "الكناس" التي
تعني في اللغة العربية الفصحى المجال الطبيعي الخصب الذي ترعى فيه الغزلان وقد
استبدل فيه حرف التعريف (أل) بحرف (الميم) لأن بعض القبائل العربية التي وفدت على
المنطقة من الشرق العربي ومن اليمن تحديدا كانت تنطق هكذا في التعريف حرف الميم
بدل (أل) وقد لا نستبعد أن تكون هذه الفرضية صائبة فالمدينة تتربع على منخفض سهل (سايس)
الخصب تحت قدم سلسلة جبال الأطلس المتوسط وهناك فرضيات أخرى تقول أن المدينة قبل الميلاد
كانت موطنا لقبيلة زناتة الأمازيغية وكان إحدى فروع هذه القبيلة يلقبون ب"أمكناسن"
ومن هنا جاءت تسمية المدينة "مكناس" نسبة إلى هذه قبيلة .
وهناك فرضية أخرى تقول أن الإسم يعود إلى قبيلة مكناسة
الأمازيغية وتجذر الإشارة في هذا السياق إلى أن هناك بعض المناطق في المغرب الأقصى
ودول المغرب الكبير في (الجزائر وتونس وليبيا) تسمى أيضا مكناس أو مكناسة مما يرجح
فرضية جذور هذا الإسم الأمازيغية خلافا للفرضية
الأولى .
لمحة تاريخية
السلطان المولى إسماعيل العلوي مؤسس مدينة مكناس
لم تدخل مدينة مكناس التاريخ المغربي والعالمي من بابه
الواسع إلا بعد أن اتخذها السلطان إسماعيل العلوي عاصمته الإدارية و الإقتصادية
والروحية منذ عام 1672 حتى 1727 وقد عرف هذا السلطان بشجاعته وبأسه الشديد وسمعته
العالية التي وصلت إلى آفاق أوروبا الصليبية آنذاك في القرن السابع عشر حيث كانت
تهابه في الضفة الأخرى من المتوسط مملكة قشتالة (إسبانيا والبرتغال حاليا) وبلاد
الإفرنجة (فرنسا) وبلاد الغال (أنجلترا) لما كان يتدجج به من ترسانة حربية متقدمة من
جيوش تقدر بعشرات الآلاف تسمى (جيش البخاري) وآلاف الأسلحة من مدافع وبنادق وخيول
..إلخ مما جعل الملك الفرنسي لويس 14 يتودد إليه ويتطلع إلى توثيق علاقات صداقة
متينة مع السلطان إسماعيل العلوي فكانا يتبادلا الهدايا والبعثات الديبلوماسية بينهما
... لذلك فقد استوحى هذا السلطان المغربي من عاصمة باريس العديد من هندساتها الباذخة
وخصوصا قصر فيرساي فشيد في عاصمته مكناس الحدائق والقصور و الإصطبلات ومخازن الحبوب
وغيرها من المحاصيل الزراعية ..إلخ ولعل أهمها على الإطلاق معلمة (باب المنصور) الذي
يقع بساحة (لهديم) الفسيحة وهو من أعظم الأبواب التاريخية في المغرب إن لم يكن في
شمال إفريقيا على الإطلاق فقد شيد السلطان إسماعيل هذا الباب الشامخ في أواخر القرن
السابع عشر، ثم جدده وزخرفه نجله عبد الله في سنة 1144 هجرية (1732 م) وهناك عديد
من الأبواب الأخرى التي تزخر بها مدينة مكناس لكنها أقل شهرة منه مثل باب (الخميس)
وباب (بردعاين) وباب (مراح) وباب (أسراك).
باب المنصور لعلج
وتعد ساحة (لهديم) التي يتواجد بها باب المنصور لعلج من
أشهر الساحات التاريخية بالمملكة المغربية إلى جانب ساحة (جامع لفنا) في مراكش
وساحة (بوجلود) في فاس. إلا أن ساحة (لهديم) هاته تمتاز بشساعتها وباعتبارها محورا
مركزيا لمدينة مكناس وجسرا أساسيا للعبور إلى جميع الاتجاهات سواء إلى الأحياء
الشعبية الجنوبية مثل حي (بني امحمد) و(الزيتون) و(البرج) و(تواركة) أو(اسباتا) أو
إلى الحي السلطاني شرقا أو إلى المدينة العتيقة (قبة السوق) غربا والتي تتشابه إلى
حد كبير مع صنوتها المدينة العتيقة (العدوتين) في فاس حيث تنشط الحرف والمهن
التقليدية كالنجارة والحدادة والخياطة والصياغة والدباغة وتجارة الأثواب والألبسة التقليدية
..إلخ كما تعتبر ساحة (لهديم) أيضا معبرا أساسيا للعبور إلى المدينة الجديدة التي
تسمى (حمرية) التي شيدها الإستعمار الفرنسي قبل مئة عام تحديدا وقد نظمت محافظة
المدينة سنة 2016 احتفالات ومهرجانات وندوات ثقافية وسهرات فنية على مدى شهر كامل
احتفاء بمرور قرن على نهوضها العمراني الحديث . و ما تزال المدينة الجديدة (حمرية)
إلى اليوم تزخر بالعديد من المعالم العمرانية الراقية والشامخة التي تتواجد جلها
بالحي الإداري كمقر بريد المغرب ومقر البلدية ومفوضية الشرطة وقصر العدالة و المتاجرو
المعامل و ورشات الصناعات العصرية وبعض مرافق الترفيه كالمقاهي والنوادي ودور الشباب
والملاعب الرياضية والفنادق الفاخرة وغيرها .
صهريج السواني
ومن المعالم التاريخية المكناسية المشهورة أيضا عالميا
صهريج (السواني) الذي يقام بفضائه الملتقى الدولي للفلاحة الذي تنظمه محافظة مدينة
مكناس منذ 12 سنة . إن صهريج السواني هذا يعد معلمة تاريخية هامة جدا على المستوى
السياحي وهو من دون شك أيقونة مكناس والوجه الآخر لبطاقة تعريفها إلى جانب باب
المنصور لعلج . إنه عبارة عن بحيرة كبيرة تتجمع فيها المياه الجارية إليها من السواني
(القنوات) الطينية الواقعة تحت أروقة مخازن الحبوب (الهري) المجاورة .
يبلغ طول هذا الصهريج حوالي 300 متر، وعرضه 140 متر. أسسه
السلطان إسماعيل العلوي ، واتخذه موردا للري تسقى من مياهه قصور الرياضات والبساتين
والحدائق عبر قنوات طينية ما تزال معالمها الأثرية ظاهرة في بعض جوانب الصهريج إلى
اليوم .
إصطبل الخيول
ويوجد بجوار هذا الصهريج إصطبل الخيول الذي كان يتسع
لزهاء 10000 حصانا والحديقة المعلقة والقصر السلطاني على بعد 500 متر والأكاديمية
العسكرية العالمية ومنتزه سياحي شاسع جدا لممارسة رياضتي الفروسية والكولف وعديدا
من الحدائق الغناء التي تجعل من هذه الفضاءات بكل يقين فردوسا بكل المقاييس قل
نظيره في المغرب .
وتمتاز مدينة مكناس أيضا بأنها مدينة الأسوار التي تحيط
بها من الجهات الأربع والمؤثثة بعشرات البوابات العالية ويبلغ طول هذه الأسوار ما يقارب
50 كيلو وكان الهدف من تشييدها حماية
العاصمة الإسماعيلية من مختلف الهجمات الحربية والمناوشات المغرضة سواء من القبائل
الأمازيغية المناوئة للحكم أومن الهجمات المحتملة للصليبيين في عصور الاكتشافات
الجغرافية الكبرى التي قادتها كل من إسبانيا والبرتغال وبريطانيا.
إن كل هذه الذخيرة والإرث الحضاري والتاريخي لمدينة
مكناس قد أهلها بامتياز لكي تدرجها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة
(اليونسكو) في عام 1996 في قائمة التراث العالمي .
مدينة وليلي الأثرية
مدينة وليلي أوفوليبيليس VOLUBILIS
لاتبعد مدينة وليلي أو(فوليبيليس VOLUBILIS) الأثرية السياحية عن مدينة
مكناس سوى ب 25 كيلو وعن مدينة زرهون سوى بأربع كيلو عبر طريق معبدة بين الجنائن
وغابات الزيتون والبساتين الغناء ، " وقد أثبتت تنقيبات أثرية منذ بداية القرن
العشرين، أن أصول مدينة وليلي القديمة (فولوبيليس) تعود على الأقل إلى القرن الثالث
الميلادي، وكانت أقدم حاضرة موريتانية ــ نسبة للمملكة الموريتانية الطنجية ــ التي
حكمت المغرب قبل المملكة الرومانية. ثم صارت انطلاقا من سنة 40 ميلادية بلدية رومانية
إلى أواخر القرن الثالث وقد صنفت تراثا إنسانيا عالميا عام 1997, وهي اليوم أهم موقع
أثري مغربي معروف ومحفوظ، يزوره سنويا ما يناهز مائتا ألف سائح مغربي وأجنبي"
(بتصرف عن الجزيرة نت.)
المكون الإجتماعي
ما من شك في أن الموقع الجغرافي ومكوناته الطبيعية
المشجعة والمحفزة على الحياة والعيش والتعايش بين البشر هو المحدد الرئيسي لتنامي
الكثافة السكانية والهجرة واختلاط الأعراق والإثنيات وبالتالي تشكيل فسيفساء
المجتمعات بشكل عام.
إن كون موقع مدينة مكناس في صدر خارطة المغرب وفي موقع
استراتيجي ومحوري تلتئم فيه كل مقومات الفلاحة المزدهرة والحضارة والمدنية قد شجع مئات
الآلاف من سكان المغرب على الهجرة إليها خصوصا بعد الاحتلال الفرنسي منذ عام 1912
م بحثا عن حياة عصرية أفضل مما جعل تركيبتها السكانية عبارة عن تشكيلة من الأمازيغ
والعرب والصحراويين والأندلسيين واليهود . وتعتبر اللغة الدارجة الممهورة ببعض
الكلمات الأمازيغية وقليل من الكلمات اللاتينية المدرجة هي اللغة المتداولة في
المجتمع المكناسي وفي الفضاءات الإدارية والاجتماعية . أما اللغة الأمازيغية الأم التي
أقرها دستور2011 كلغة رسمية فيتم تداولها بين السكان الأمازيغ في بعض المدن والقرى
المجاورة لمدينة مكناس كمدن أزرو والحاجب وإفران هذه الأخيرة التي تعتبر من أجمل
المنتجعات الجبلية ليس على صعيد المغرب فحسب بل على صعيد القارة الإفريقية حيث تم
تصنيفها كثاني أنظف مدينة في العالم، حسب استطلاع أجراه موقع "إم بي سي تايمز"
فيما احتلت مدينة "كالجاري" الكندية المرتبة الأولى. وقد أشار موقع "إم بي
سي تايمز" إلى أن مدينة إفران تتوفر على هواء طبيعي ونقي، وعلى مناظر طبيعية خلابة
تشبه إلى حد كبير مقاطعة سويسرية كما تمتاز بأشهر منتجات زراعية معروفة بإنتاج شجر
الأرز في العالم وبها توجد أقدم وأضخم شجرة بالمغرب يبلغ طولها طول 42 مترا وعرضها
8 أمتار، و قد حملت هذه الشجرة اسم مكتشفها، الجنرال الفرنسي PALUEL
MARMONT الملقب ب"غورو"
والذي كان عابرا وغازيا المنطقة سنة 1912 على رأس فيلق من الجيش الفرنسي في مهمة تمشيطية
بغابات جبال الأطلس المتوسط .
إن التعايش والتسامح والسلم الاجتماعي الذي ينعم به المغرب
في ظل الدولة العلوية منذ قرون واعتماد ساكنته المذهب المالكي السني قد أسهم كثيرا
في تذويب الفوارق الإثنية والعرقية في جسد المجتمع المكناسي والمغربي عموما مما
أهل جميع أطياف سكانه إلى التمازج والاختلاط التعايشي والسلس .. فقد نجد في
العائلة الواحدة أصولا عربية و أمازيغية أو صحراوية وأندلسية وحتى ذات أصول من
الشرق العربي ولا غرابة في ذلك حين نجد ألقابا كثيرة تحيل على أصولها الشرقية مثل
البغدادي واليمني والتونسي و الغزاوي والمكاوي والهاشمي والمديني والحضرمي ..إلخ
المكون الثقافي
تعتبرمدينة مكناس من أهم مراكز الإشعاع الثقافي في
المغرب قديما وحديثا لكن بشكل متواضع لأسباب كثيرة منها تواجدها بين مدينتين
كبيرتين هما فاس والرباط اللتان تستأثران باهتمام السلطات المركزية أكثر منها منذ
الاستقلال ... لقد أنجبت مكناس عديدا من العلماء كما استقربها كثير منهم على عهد حكم
السلطان إسماعيل العلوي ولعل المآثر و الفضاءات التاريخية لخير دليل على ذلك وأهمها
خزانة الجامع الأعظم ويرجع تاريخ تأسيسها إلى عهد الدولة المرينية، التي امتد
حكمها من سنة (668 هـ) إلى سنة (869 هـ).
يقدر عدد المخطوطات حسب الأستاذ عبد السلام البراق المكلف بهذه الخزانة بـ17
ألف كتابا أغلبها كتب باللغة العربية في التراث الإسلامي والتاريخ والأدب أقدمها الجزء
العاشر من «الجمهرة في اللغة» لابن دريد الأزدي المتوفي عام 321 هـ، و«مختصر المدونة
الكبرى» لمؤلف مجهول ويرجع تاريخ نسخه إلى 512هـ والجزء الأول من «شرح الأحكام» لابن
صاحب الصلاة و«الأنواع والتقاسم» لابن حيان والجزء الثاني من «الإشراف على مذاهب العلماء»
لابن المنذر والجزء الثاني من «عين المعاني في تفسير السبع المثاني» لابن طيفور والجزء العاشر من «عيون الأدلة و ايضاح الملة» لابن قصار و«شرح تحفة ابن عاصم» لنجل ابن عاصم وفصل من «كتاب الواضحة» لعبد المالك ابن
حبيب .
وأنجبت مدينة مكناس أيضا عديدا من أعلام الفكر والأدب
والعلم والسياسة أشهرهم أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن عثمان المكناسي توفي سنة
1799م وهو رحالة ومؤرخ ووزير وسفير مغربي بعثه السلطان محمد بن عبد الله العلوي في
أكتوبر 1779 سفيرا إلى إسبانيا خلفا أحمد بن المهدي الغزال .
ومن أشهر رجالات المدينة كذلك العلامة مولاي عبد الرحمان
بن زيدان ويعتبر من بين الأعلام الذين خلدوا مجد الدولة العلوية بمؤلفاته وأشعاره،
التي ظل منكبا على إنجازها حتى مماته. وقد عين نقيبا للشرفاء العلويين بمكناس و زرهون،
كما عين مديرا مساعدا للأكاديمية العسكرية بمكناس، وبقي يزاول مهمته إلى حين وفاته.
بلغت مؤلفاته زهاء سبعة وعشرين ما بين مطبوع ومخطوط، وجلها
في تاريخ الدولة العلوية منها "إتحاف
أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس" في خمسة أجزاء.
ومن بين الشخصيات المشهورة في قصيد الزجل بمكناس والمغرب
الأقصى بل وحتى المغرب الكبير نجد سيدي عبد الرحمان المجدوب الذي رحل من قبيلة
دكالة غرب المغرب وهو صبي مع والده سنة 1508م واستقر بمدينة مكناس وقد عرف بتصوفه
وأشعاره الزجلية التي أرخت لتجربته الاجتماعية ووثقت بالتالي حكم قصائده البليغة
التي باتت كثير من أبياتها يرددها المجتمع المكناسي ومن بين أقواله المأثورة :
راح ذاك الزمان ونــــاسو
وجا ذا الزمان بفاســـو
وكل من يتكلم بالــــــــحق كسرو لو راســــــــــــو
ومن أيقونات مكناس أيضا إلى جانب سيدي عبد الرحمان المجدوب
يرقد بمدينة مكناس زجال و شاعر آخر هو سيدي قدور العلمي الذي ولد 1742 في مكناس وتوفي
بها سنة 1850 وهو أحد أكثر شعراء المغرب شهرة بسبب تجربته الحياتية المريرة بعد أن
فقد داره وظل هائما وشريدا في حارات مكناس العتيقة حتى باتت رمزية شخصيته ملهمة
لعديد من الأدباء وكتاب السيناريو فقد تم توظيفها كتيمة أساسية في عديد من
المسرحيات الموسومة باسمه ومن أشهر أقواله :
كيـــــف ننسى تلطامي فـي دروب مكنــــاس * غـربتــي
وامباتي فـدكاكــن لمــــدارس
اعياو بيـــا لحـوانـت في اســواق لبخــــــاس *
ولفنادق وابيــوت أو سايــر لمجالـــــس
انظـــل هايم وانبات على الخبـــال عســــاس * والصباح
نصبح فباب الـدراز جالــــس
امنين حســو بيــــا تمة اسطبـــــت لجــــلاس *
رادفــــو عنــي بالنهـــــرات والنقايــــم
المباتـــــة بالجــــوع ولا اطعــــام مكنـــــاس
* ولفقــــر والغـربة ولا اصحبت شاتــــم
وقد شكلت هذه القصائد وغيرها من ذخيرة الزجل والشعر المكناسي
أغاني خالدة من تراث طرب (الملحون) الأصيل و تعتبر مدينة مكناس إلى جانب مدن فاس
ومراكش مهد هذا النوع من الأغاني العريقة . وفن الملحون هو تراث إنشادي وغنائي
متميز في المغرب فقط من دون دول المنطقة المغاربية الأخرى ، نشأ في منطقة تافيلالت
جنوب مدينة مكناس ولا يستبعد أن يكون قد استلهم بعض خصوصياته ومقاماته من تراث
الطرب الأندلسي ، ومن أشهر أعلام طرب الملحون بمكناس وبالمغرب قاطبة المنشد الراحل
الحسين التولالي الذي أبدع وغنى عديدا من القصائد الزجلية لسيدي قدور العلمي وسيدي
عبد الرحمان المجدوب وقصائد أخرى شهيرة مثل الشمعة و الحراز و دبليج زهير وفاطمة
..إلخ وتتلمذ على يده عشرات الشابات والشباب من مدينة مكناس وغيرها من المدن الذين
باتوا اليوم هم حاملي مشعل هذا التراث الطربي المتفرد كما تفاعل مع تجربته الملحونية
بعض المجموعات الغنائية مثل مجموعة جيل جيلالة وناس الغيوان .
المشهد الثقافي اليوم :
لقد عانت مدينة مكناس من التهميش الثقافي والاقتصادي
أيضا بالرغم من كل هذا الإرث التاريخي والثقافي العظيم خصوصا منذ أوائل ثمانينات القرن
الماضي إلى اليوم .. فعديد من الفضاءات الثقافية أصبحت متقادمة ويعود تاريخ بنائها
إلى عهد الحماية مثل دار الشباب والمعهد الموسيقي بشارع محمد الخامس . وعرفت المدينة
كذلك على غرار باقي المدن الأخرى بعد تعاظم دور وسائط التواصل التكنولوجية
الحديثة إغلاق ما يقارب عشر قاعات للسينما كما تم مؤخرا تحويل فعاليات أشهر مهرجان
وطني للمسرح الذي كان ينظم في مدرجات حديقة "الحبول" إلى مدينة أخرى شمال
المملكة إلى غير ذلك من الانتكاسات الثقافية التي عرفتها هذه المدينة الشامخة في
العقود الأخيرة بالرغم من تواجد عديد من الأدباء والشعراء والمثقفين والفنانين
الإلمعيين على الصعيد العربي بها مثل الباحثين الأكاديميين المسرحيين المشهورين
الدكتور حسن المنيعي و الدكتور عبدالرحمان بن زيدان والشعراء عبدالسلام الزيتوني
وعلال الحجام وبنسالم الدمناتي والزجالين محمد بنعيسى والراحل محمد الراشق
والمطربة العربية الكبيرة عزيزة جلال والمطرب فؤاد الزبادي والإعلامي التلفزي
مصطفى العلوي ومليكة الملياني الشهيرة بلقب (السيدة ليلى) واللائحة طويلة .
وفي سياق هذه الجولة الاستطلاعية لمدينة مكناس العريقة
لم يفوتنا أن نستقصي آراء ومواقف بعض المثقفين الغيورين عن المدينة والذين آثروا
الإقامة بها والتشبث بعراقتها خلافا لعديد من الكتاب والفنانين الذين فضلوا البحث
عن فضاءات النجومية في المدن الكبرى وخصوصا الرباط و الدارالبيضاء وطنجة ومراكش .
فهذا الشاعر علال الحجام وهو من
جيل السبعينات في شهادته الموسومة ب "مكناس التي في القلب" يقول : إن الشّعور بالانتماء إلى مكناس تتجاذبه حسب
تقديري مشاعر متضاربة، فهناك من جهة مشاعر الاعتزاز بشموخها بما هي حاضرة تنبض تاريخاً
وثقافة وإثنيات مما جعلها بحقّ مدينة مفتوحة في وجه كل وارد وخاصة من تافيلالت والجهات
المجاورة على العكس تماما من كثير من المدن المغلقة التي تناصب العداء لكل طاريء. لكن
هذه المشاعر من جهة أخرى تدعونا للأسف عليها لما آلت إليه في السّنوات الأخيرة من تردّ،
فهي تكبر وتتضخّم دون أن يتحقق أي انسجام بين حاضرها وماضيها، بل تفقد على العكس من
ذلك الكثير مما كانت تحفل به من رونق وثراء بقدر ما تترهّلأ رجاؤها وتتسع...هذا فضلا
عن كون المدينة التي كان يقدّرها المستعمر الفرنسي حقّ قدرها ويعرف أهميتها، لدرجة
تسميتها بـ"فرساي الصغيرة" لم تعد تجد نفس العناية والتقدير والدليل على
هذا تراجع منزلتها بالنسبة للدولة، وتضاؤل مكانة نخبها قياسا بما كانت عليه قديما.
ويردف في نفس الشهادة : من المؤكد أن
مدينة مكناس لم تفتح لأبنائها الأفاق الملائمة التي تفتحها مدن بل وقرى أخرى تحظى بالأولوية
في السياسة الرسمية، لأن لها من الولاءات ما يهبها هذه الحظوة، وهذه حقيقة لا يمكن
إخفاؤها، وكأنّ لا شعورها الجمعي لسوء طالعها لا يزالُ يعاني من لعنة "حبس قارا"مما
يجعلها غير قادر على التمرّد على أسوارها المديدة التي ظلت تحاصرها وتحول دون امتداد
الرؤية بعيدا.
ومهما يكن من أمر فإنّ مكناس الغنّاء
التي في القلب تبقى مع ذلك هي الرّحم الذي حملني سنين، وألهمني اكتشاف مسالك الإبداع
ومكنني من ربط علاقات عشق مع فضاءاتها وآثارها وحدائقها وجمعياتها ومؤسساتها الثقافية
والشبابية.
أما المترجم والروائي عبد النبي
كوارة فيبوح لنا في شهادته قائلا " إنه مما يتبادر إلى الذهن، بل مما يحيره هو الحديث عن أمس وحاضر المدينة التي
شاء لها أن تحضنك وكان من قدرك أن تنتمي إليها، ومهما حاولت إخفاء نرجسية و شوفينية
الانتماء لمدينة مكناس لأنتصر لمدن كل الوطن، فغالبا ما أنهار أمام عشقها التي حملته
معي في كل غرباتي المدية والقصية، لأدرك أنني أبدا لن أستبدل حبها بحب مدينة أخرى،
مع العلم أنني كنت على شفى السقوط في حب مدينة أفنيون مع مطلع الشباب، لو لم أتشبث
بعناد طفولتي وأكتفي بهواها دون حبها، فما
الحب إلا للحاضرة الأولى.
كبرت مكناس وامتدت على ظهر الصفيح، تعطل نموها وتأخرت تنميتها،
وهي اليوم ينهشها أبناؤها قبل الغرباء عنها ممن تولوا تدبير شؤونها، وكانت وجه عروس
بشامات تسع، وكنا نرقب الشامات عبر فندق المحيط، و من على البرج (المشقوق)، كنا نفرح لامتداد أحواض النعناع وفواكه البساتين ورقراق الماء الحلو. تبدد جمالها
وسقطت قيم الجيرة و التساكن والمودة من أركانها، يا حسرتي. مكناس قبلة ، ولن تشدني
دوما سوى مشقة الحنين إلى مكناس القبلة
الأستاذ الباحث
مصطفى الشكدالي
الأستاذ مصطفى الشكدالي الأخصائي
في علم الإجتماع والسيكولوجيا فيقول في شهادة خص بها حصريا هذا الاستطلاع " مكناس
هي المدينة التي لا يمكنك أن تسكنها دون أن تسكنك. هذه خلاصة تجربتي وأنا الذي سكن
مكناس والآن هي التي تسكنه. هذه المدينة التي رأيت بقربها النور وترعرعت بين دروبها
وأزقتها وعلى جنبات أسوارها، تتجاوز المكان بمعناه الفيزيقي إلى الفضاء بمعناه الطقوسي.
ففضاء المدينة يظل مفتوحا على التراث في بعديه
المادي واللامادي، أسوارها الشاهقة وأضرحتها المترامية في كل مكان من المدينة
العتيقة تجعل من يقطنها محملا بعمق التاريخ
والذي يأخذ صبغة المخزون النفسي من تصورات و مخيال وطقوس. مكناس هي المدينة
العيساوية- الصوفية والتي تتقاطع مع فن الملحون وأشجار الزيتون لتسكن بذلك وجدان قاطنيها
وإلى الأبد. "
وفي ختام هذه الآراء يقول
السيناريست والروائي عبدالإله الحمدوشي في تصريح خص به إستطلاعنا هذا : (مدينة مكناس
خليط من السحر والخرافة والتاريخ .مدينة يحرسها الاولياء.وهواؤها عابق بالنعناع.وماؤها
قامت من أجله معركة تسمى معركة ماء بوفكران.
حقا إنها معركة الكرامة خاضها
المكناسيون إبان الإستعمار من أجل مائهم العذب الزلال الذي قامت سلطات الحماية
بتحويل مجاريه إلى ضيعات المعمرين وهي معركة سقطت فيها عديد من أرواح الشهداء
والمعركة لم تتوقف إلى اليوم لكن باتت اليوم معركة من أجل التنمية الاجتماعية
والاقتصادية والثقافية .
هل إنتهت إذن رحلتنا على بساط
العشق في سماء مدينة مكناس ؟ أبدا حتما سنعود في رحلة ثانية وقد حققت هذه المدينة
التليدة بعضا من أحلام أجيالها منذ الاستقلال حتى يومنا هذا .
0 التعليقات:
إرسال تعليق