الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أغسطس 12، 2020

قصة أوراق من تحت الردم عبده حقي

 

 

أورق من تحت الردم

عبده حقــي - المغرب

 

كانت فوق كفه العريض
مدينة بلا خرائط..
ليال بلا أحلام مبيتة..
وأشجار أرز توزع ظلالها

على شرفات الشرق والغرب بلا حساب...
وحدها سترة خليل أمامي الآن على جداريحرس انحناءه .. ذكرى فرح أفسدت دبكته نيران صديقة فيما سلف...
عرفته في باريس.. كان يعشق فيروز و قصائد نزار وجوازات السفر.. مثل طائر الدوري عرفته هناك ..
كان يردد علينا دائما في مقهى (لوريون) بالحي اللاتيني : أيها الرفاق متى نصير كالبحر بلا خرائط وبلا ألغام بيننا على الحدود...
صيف ليس ككل الأصياف ... شمس (جويليه) تقذف بحممها على الجنوب. لافرق بين أن نكون تحت سقف أو تحت قصف.. فالقصف على التلال ألوانا.. ولم ندركيف اندلعت النار من تحت أقدامهم .

هاديا هنا وخليل هناك في (لارناكا) يحلم بجسديهما يستلقيان على ساحل بيروت عند الأصيل، حين يكون الرمل ناعما وأملسا مثل فروة بساط الريح البابلي...
"الموبايل" على المنضدة النحاسية .. هاديا ترابط بالمطبخ .. تنفض يديها من طنجرة (التبولة) ..فجأة تشد على رأسها وتعدو في خندق الأدراج الواطئ تحت لعلعات الرصاص .. وائل يتبعها وجلا على متن طائرة من ورق الدفتر: (بابا .. بابا.. أوه مافي حدا ياماما ؟)
تمتزج في حدقتيهما خلسة دموع الغياب .. من يظللهما من " أمطار الصيف" القذرة وقنابل "العناقيد" الآثمة...
__ آلو .. آلو .. بابا فين ؟
__ باباهينا .. هيناهو..
__ آلومين بالتيليفون ؟
__ الخطوط مقطوعة ... ما في حدا بيرد (صوت العلبة الصوتية يلوك حروفه كالببغاء) : ليس لديكم رسائل أو مكالمات بدون رسائل.. المرجوالإتصال لاحقا.
__ ما في حدا ياماما ؟
__ أيوه ما في حدا ياعزيزي ...
هاديا تقفل (الموبايل) .. وائل خلفها يبكي .. يمزق طائرته .. يأخذ قلم رصاص ويكتب على دفة المطبخ :
(تجيء الطائرات..
طائرات..
تخطف العاشق من حضن الفراشة.)
شكرا يا عمي محمود.
هاديا تهيئ ( التبولة ) وكعكة لعيد ميلاد أجهضته "أمطار الصيف" مثلما أفسدت دبكة فرحهما نيران صديقة فيما سلف...
لكن ما بال خليل مابيرد علموبايل . منذ سنين هاجرإلى ( لارناكا ) كرئيس لمطعم بفندق (الأوقيانوس) .. هاديا أوشكت أن تنسى صورة وجهه المكتنز و صوته العميق كبئر .. صوته الذي يجلجل من تحت شارب ستاليني كثيف و معقوف كقرني ثور(الكوريدا الأندلسي...)
مابين القصف والغياب ..خليل من ( لارناكا ) يحدق في سماء لم تبرحها نارالتنين منذ ثلاثين عاما . هاديا تخمن الليلة أنه يتوسد حقيبته في باحة المطار و يحلم بجناحين وبوائل أمامه في الصالون يرقص على ( الهابيبورذاي) مغمورا بالأنوار القزحية والشرائط الملفوفة والبالونات المزركشة في الهواء والأفواه الصغيرة المعفرة برغوة القشدة وصوت فيروز يصدح على البلكونة :
(سنرجع يوما إلى حينا ..
ونغرق في دافئات المنى ..
سنرجع مهما يمر الزمان..
وتنأى المسافات ما بيننا ...)
هاديا لاتسمع في هذه الظهيرة غير هدير جرافات تشم جسد الجنوب بندوب غائرة وخرائب همجية .. وأزيز طائرات أشباح لاتأبه لنظرات أطفال كل جرائمهم أنهم مدججين بالبراءة ...
حيطان تتصدع ..أسوار تطفح ببثور"عناقيد" آثمة.. غباريولد من غبار.. رائحة الكبريت تملأ كل المعابر والدروب والأدراج والممرات.. كانت أسراب الصقور تمطر عناقيدها اللقيطة لتعبث بالشبابيك وتبعثر أصص الحبق واللبلاب والدوالي وباقات الورود والحدائق المعلقة والحدائق المؤجلة إلى نيسانها القادم ... والموبايل كمان لا يرن .. أين خليل ؟. وما عنوان سقفه من قبل أن ينهار السقف عليهما من دونه .. وهل يصله وجع الأرض تحت جزمات الإجتياح الغاشم .
هاديا ووائل يقبعان تحت المنضدة النحاسية القديمة التي جلبها جد خليل من إستنبول ( أيام سيق مع أقران حيه لأعمال الخدمة العسكرية بالسخرة تحت سياط العثمانيين ...) كانا يقبعان مثل جنديين في خندق على خط النار الأمامي. نظراتهما ممهورة بالدهشة والرعب والترقب .. والموبايل كمان وكمان ما بيرد...
كيف انفجرا فجأة بالبكاء.. وجهان يبكيان .. أوربما تهيأ لناعلى قناة ( الجزيرة) أنهما يبكيان.. يقينا أنهما لايبكيان فقد ألفا هذا الدوي منذ بدأ القصف ، بل باتا لا يتصوران حياتهما قد تستمر بدونه منذ ثلاثة عقود أو أكثر.. لذا فقد باتا يرغبان فيه. (هيا إذن.. مزيدا، مزيدا أيتها الصقور المتوحشة ، أمطريهم بما شئت من أمطارك الصيفية البغيضة.)
دوي تلو انفجار.. تلو فرقعة.. تلو هدير.. تلو أزيز.. تلو صراخ.. تلو عويل ..تلو صمت.
لقد صارا يسخران من صور الموت المتربص بهما.. أجل إلى هذه الدرجة صارا يسخران من لعلعات الكلاشنيكوف وصليل الآليات وهدير المحركات وجلبة الغزاة بين الدروب .. كان كل هذا (الشرق الجديد) يزحف بتؤدة الثعابين الرقطاء من تحت الشرفات المطلة على جنائن الزيتون والتفاح وغابات الأرز.
-- هل بمقدور منضدة نحاسية قديمة أن تدرأ قذائف طائشة من صقورلاتسري دماء في أسلاكها النحاسية..؟ هل تستطيع الحيطان أن تدفع بصدرها الآجوري العريض لتصد وابل العناقيد العبأة بزعاف الموت ...
لقد شرع السقف من فوقهما يتكلم .. يتألم .. يتمزق.. والحيطان تتداعى .؟ لا جرم أنها ستؤول للسقوط .. كل شيئ من حولهما طفق ينهار.. المنضدة النحاسية القديمة وحدها تقاوم الزلزال وترفع الردم .. لكن السقف يقينا سينهار.
(.....................................)
لقد انهار الآن تماما على الجسدين والكعكة و(التبولة) والشرائط القزحية والبالونات الملونة وحبال الأنوار و الطورطة المكللة بالشموع وصوت فيروز و عيون الصقور ما تزال على أكمة الأرز تراقب البقاع والتلة وحقل التفاح .
هكذا انهار السقف كما شاءت هاديا ووائل لاكما شاءت الطائرات والمدافع...
هاديا تضم وائل إلى صدرها المضرج بدم الشهادة وكأنها تربت على جسده الغض في لحاف وسنة لذيذة وهي تغمغم ( يله تنام سها .. يله تنام سها .. )
أين خليل..؟ ها جسداهما متعانقان في أبهى توحد .. ما أفضع هذا الحقد وما أروع هذه الصورة وما أجل هذا الرحيل الملحمي إلى مواعيد حفرت تاريخها على شواهد القبور المرمرية...
خليل في مطار(لارناكا) يلعن الموبايل:
__ آلو.. آلو..
__ ...........
__ ما في حدا بيرد
__ ........
عين الكاميرات على قوافل النازحين إلى الشمال .. ( عيتا الشعب ) ، (مرجعيون) ( عيترون ) ، (مروحين) ، (شبعا) ...
أطفال يعدون في المسالك الجبلية الوعرة وعلى الجسور المتداعية...
ياه..ياه.. كيف رأيناهم في الطريق يكبرون كالرجال ويحملون أشياء الوطن بكبرياء الإنتماء ، يحلمون بدفاتر يرسمون عليها أشجار أرز تتوضأ بنار الشرق واقفة...
هناك في تلك الليلة القائظة تعرت الأرض عن سر ميثاقها الدفين ...
من أين لهذه السقوف المتهاوية على الأجساد الناضرة كل هذا الدثار الحنين ..؟ ومن أين لهذه السواري والأعمدة كل هذا العناق الرؤوم..؟
قيامة ما بعدها قيامة ... لهاث حار كأنه يصاعد من جوف بركان ... بكاء كالضحك وضحك كالبكاء .. أسنان تعض على تلافيف الفساتين والدراعات البدوية كي تلاحق الأقدام الهلوعة خطواتها الهاربة نحوموتها المدبرفي ردهان الصقور... يبدو من الشرفة طريق الشمال طويلا .. طويلا ونافذا في العمق القاني البعيد.. وتبدوالعوائل على الباصات والكاروات والدواب متهالكة على رزمها وحقائبها وأسرتها الباردة... صور لبقايا أحلام طمست فراديسها خرافة (نهاية التاريخ...)
شيخ ينقل من راديو شاحنته أخبارا عن فيالق أرز عنيد لا تركع لطوفان "أمطار الصيف" ولا "للعناقيد" المعبأة بنزوة الإبادة ...
خليل تتدافعه الأجساد في المطار... أصوات ما بالداخل تنبؤه عن هاديا ووائل . كانت يد على قلبه ويد على الحقيبة وعلى المدرج يهرع في أي اتجاه .. وكان يرنو إلى (بوينغ) الشرق الأوسط الرابضة هناك على المدرج ببلاهة .. يقينا أن السقف قد انهارعليهما مثلما انهار على الآخرين في القرى القصية ...(همس لنفسه)
ليل (لارناكا) يمتد ساخنا وعبقا برائحة الحرائق القادمة من شرق المتوسط .. و(الموبايل) لا يرن ورسائل الجنوب لم تأت بعد وفي المدى تتسع شهية الحرب والخرائب والنيران والدمار...لكن ما ذنب البراءة ؟؟.

سبتمبر 2006

0 التعليقات: