الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، نوفمبر 23، 2023

الريح، رسولي الخريفي : عبده حقي


الشمس، المتلصصة الحزينة، تختلس النظر من خلال أصابع الأشجار، وتلقي بظلال طويلة تمتد عبر التضاريس مثل أصابع عازف البيانو الذي يعزف سوناتات من عالم آخر. تتداخل الألوان مع بعضها البعض، لتشكل سيمفونية تتناغم مع رقصات الكون الخفية.

في هذا العالم الغامض، الزمن هو فنان غامض أيضا ، يرسم ضربات مجردة على قماش الوجود. إنه يتمدد ويلتوي، مما يخلق تموجات في نسيج الواقع. تصبح الثواني خيوطًا مرنة، تنسج اللحظات، وتتشابك في سلسلة متصلة.

تمشط الريح بأصابعها سوالف الأرض، لتكشف الأسرار المدفونة تحت التربة. تحمل رائحة الحنين الممزوجة برائحة الأوراق الرطبة والمتحللة، وهي تعرج في أروقة الزمن المنسية. كل هبة هي همسة من الماضي، همهمة من حكايات قديمة يتردد صداها في تجاويف الحاضر.

تنجرف قافلة من السحب بتكاسل عبر قماش السماء الأزرق السماوي، وتتحول أشكالها إلى مخلوقات خيالية مع كل لحظة عابرة. الشمس، الخيميائية الصامتة، تحول الغيوم إلى أوهام متلألئة، وتطلي السماء بألوان تتحدى منطق الظل الأرضي.

تحت الأشجار الهامسة، الأرض عبارة عن فسيفساء من الأوراق المتساقطة، كل واحدة منها عبارة عن تحفة مصغرة في معرض الاضمحلال. إنها تتجعد تحت الأقدام، وهي سيمفونية من الألحان الصاخبة التي تغني عبر مشهد الأحلام هذا. تنسق الريح هذه الرقصة، وتؤدي باليه من أوراق الشجر في حركة دائمة.

عندما تبدأ الشمس في الهبوط، يصبح الأفق بوابة إلى بعد آخر. تنزف ألوان الشفق في المناظر الطبيعية، وتلقي وهجًا غريبًا يطمس الحدود بين الملموس واللاملموس. الريح، التي أصبحت الآن تهويدة لطيفة، تهز العالم لينام، وتحتضنه بين دراعي الليل.

في مشهد الأحلام الخريفي هذا، الظلال ليست مجرد غياب للضوء، بل هي كائنات واعية تتجول بحرية بين العوالم. إنهم حراس العتبة الصامتون، حفظة الأسرار المخبأة في ثنايا الزمن. وبينما يأخذ القمر مكانه في الركح السماوي، تعود الظلال إلى الحياة، وترقص بنعمة أثيرية تتحدى قوانين الجاذبية.

سماء الليل، كاتدرائية كونية، تفتح أبوابها لتكشف أسرار الكون. النجوم، مثل الجواهر المتناثرة، تزين الفضاء المخملي، كل واحدة منها بوابة إلى المجرات البعيدة غير المستكشفة.

الريح، التي أصبحت الآن شاعرة سماوية، تغني للكون، وتترجم لغة النجوم إلى لحن مؤرق يتردد صداه في قلوب الحالمين.

في عالم الأحلام، يكون الواقع وهمًا عابرًا، وتذوب الحدود بين الوعي واللاوعي في ضباب ضبابي. تتحول الريح، مثل المتغير، إلى أصداء الذكريات المنسية والرغبات غير المكتملة. إنه يحمل ثقل الكلمات غير المنطوقة وعطر الاحتمالات غير المحققة، وينسجها في نسيج الليل.

مع اشتداد الليل، يصبح المشهد عبارة عن ظلال منسوجة من الظلال وضوء القمر. تُلقي الأشجار، مثل الحراس القدماء، صورًا ظلية طويلة ومغزلية تمتد لتلامس النجوم. الريح، التي أصبحت الآن متآمرة صامتة، تتدفق عبر أوراق الشجر، مما يخلق سيمفونية من الهمسات التي تروي قصص الكون التي لا توصف.

في مشهد الأحلام السريالي هذا، الزمن عبارة عن كيان مائع، يتدفق في تيارات غير متوقعة تتحدى القيود الخطية للساعة. يتلاقى الماضي والمستقبل في الحاضر الأبدي، وتصبح كل لحظة بوابة لاحتمالات لا حصر لها. تعمل الريح، كنسيج كوني، على ربط اللحظات معًا، مما يخلق نسيجًا سلسًا من الوجود.

وتستمر رقصة الريح السريالية طوال الليل، وهي رقصة باليه ليلية تتجاوز حدود العالم الملموس. إنها تحمل في طياتها أحلام النفوس النائمة، تهمس بالنبوءات لمن يجرؤ على الإصغاء. تم رسم المناظر الطبيعية، التي أصبحت الآن لوحة من الأحلام، بضربات فرشاة الريح بعيدة المنال.

عندما يكسر ضوء الفجر الأول تعويذة الليل، تأخذ الريح إجازتها، وتعود رسالة طيفية إلى العوالم الأثيرية. يتلاشى مشهد الخريف السريالي في عالم اليقظة، تاركًا وراءه إحساسًا بالدهشة والصدى الخافت لهمسات الريح الغامضة. يستيقظ العالم، لكن أسرار الليل باقية، مخبأة في تجاويف الذاكرة مثل شظايا حلم نصف متذكر.

0 التعليقات: