الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، سبتمبر 25، 2024

أية استراتيجية للاستدامة في المغرب ؟ عبده حقي

 


الاستدامة durabilté مفهوم اكتسب أهميته العالمية في القرن الحادي والعشرين حيث تسعى الدول والشركات والأفراد إلى إيجاد سبل ناجعة لتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والرعاية البيئية والعدالة الاجتماعية. والاستدامة تعني في جوهرها، تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة. إنها منهج متعدد الأبعاد يتطلب دراسة متأنية للعوامل الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.

وفي عالم يواجه تحديات خطيرة على مستقبل الإنسانية مثل تغير المناخ ونضوب الموارد المائية والمعدنية والفوارق الاجتماعية، أصبحت الاستدامة أكثر من مجرد كلمة رنانة – بل إنها استراتيجية سياسية حاسمة لبقاء الجنس البشري وتطوره نحو مستقبل أفضل.

تتطلب استراتيجية الاستدامة رؤية شمولية تدمج الاعتبارات البيئية والاقتصادية والاجتماعية في عمليات صناعة القرارات السياسية. وتتطلب التحول من المكاسب قصيرة الأجل إلى التفكير على المدى المتوسط والبعيد، مع التركيز على الحفاظ على موارد البيئة، ودعم الرخاء الاقتصادي، وضمان الرفاهية الاجتماعية.

تعتمد الدعامة الأولى للاستدامة على الحفاظ على الموارد الطبيعية وحماية النظم البيئية. وهذا يعني الحد من التلوث وإدارة النفايات بشكل مسؤول والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة وتعزيز التنوع البيولوجي. والهدف من كل هذا هو ضمان بقاء الموارد الطبيعية مثل الهواء النظيف والمياه العذبة والأراضي الخصبة متاحة للأجيال القادمة.

ومن جانبها تسعى الاستدامة الاقتصادية إلى إنشاء منظومة اقتصادية لا تكون مربحة فحسب، بل مرنة وعادلة أيضًا. وهذا يتطلب تعزيز النمو الاقتصادي مع ضمان استفادة جميع قطاعات المجتمع منه. كما يتطلب التركيز على الابتكار وخلق فرص العمل وتطوير التقنيات الخضراء التي تساهم في مستقبل أكثر استدامة.

أما الاستدامة الاجتماعية فهي تركز على المساواة والعدالة، وضمان حصول جميع أفراد المجتمع على الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم والتشغيل. كما تعمل على تعزيز التماسك الاجتماعي وحماية حقوق الإنسان كما حددتها الدساتير والمواثيق الدولية. وتدرك الاستراتيجية المستدامة اجتماعيًا أن عدم المساواة والاستبعاد الاجتماعي يمكن أن يهدم الرفاهية العامة للمجتمع.

إن مفهوم الاستدامة هو مجال واسع النطاق يشتمل على مجالات عمل متعددة، ولكل منها أهمية بالغة في معالجة التحديات المترابطة التي يواجهها كوكب الأرض. وتشمل هذه المجالات التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية أحد المجالات الرئيسية في مجال الاستدامة. إن تخفيض الاعتماد على الوقود الأحفوري أمر بات ضروريا للتخفيف من آثار تغير المناخ وضمان أمن الطاقة على المدى الطويل.

كما تعد استراتيجيات إدارة النفايات الفعّالة، مثل إعادة التدوير والتسميد والحد من إنتاج النفايات، ضرورية لتقليل التأثير البيئي للأنشطة البشرية. ويشمل هذا المجال أيضًا إدارة المواد الخطرة لمنع الإضرار بالنظم البيئية وصحة الإنسان.

وتعتبر المياه موردا ثمينا يتعرض لتهديد متزايد بسبب الإفراط في الاستخدام وتغير المناخ. وتتضمن الاستدامة في هذا المجال حماية مصادر المياه، وتعزيز كفاءة استخدامها، وضمان الوصول العادل إلى مياه الشرب الصحية والنظيفة.

يجب أيضا أن تكون الزراعة مستدامة لإطعام سكان العالم المتزايدين دون استنفاد الموارد. ويشمل ذلك ممارسات مثل تناوب المحاصيل، والزراعة العضوية، والزراعة الحراجية، التي تعزز صحة التربة، وتحافظ على المياه، وتقلل من استخدام المواد الكيميائية الضارة.

أخيرا تلعب الشركات دورًا رئيسيًا في جهود الاستدامة حيث تعمل العديد منها الآن على دمج الاستدامة في عملياتها من خلال تقليل الانبعاثات وتنفيذ سلاسل التوريد الأخلاقية وتعزيز مبادرات المسؤولية الاجتماعية للشركات.

تتميز المملكة المغربية بأنها واحدة من الدول الرائدة في مجال جهود الاستدامة، وخاصة في مجال الطاقات المتجددة. وقد أدركت الدولة أهمية التنمية المستدامة ليس فقط لأسباب بيئية ولكن أيضًا كاستراتيجية للنمو الاقتصادي والإدماج الاجتماعي.

فقد قطع المغرب خطوات كبيرة في مجال الطاقات المتجددة، مع خطط طموحة لتوليد أكثر من 50٪ من كهربائه من مصادر متجددة بحلول عام 2030. كما تعد محطة نور للطاقة الشمسية، الواقعة في الصحراء الكبرى، واحدة من أكبر مجمعات الطاقة الشمسية في العالم ومشروعًا رائدًا في استراتيجية الاستدامة في المغرب. إن هذا الالتزام بالطاقة النظيفة لا يقلل من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري فحسب، بل يضع المغرب أيضًا في مرتبة رائدة في الاقتصاد الأخضر.

ويواجه المغرب ندرة مخزون المياه بسبب مناخه الجاف وتزايد عدد سكانه. ولمعالجة هذا التحدي، نفذت البلاد سياسات تهدف إلى تحسين كفاءة استخدام المياه، وتوسيع نطاق إعادة تدوير المياه، والاستثمار في محطات تحلية المياه وإنشاء الطريق السيار للماء . وتعتبر هذه الجهود ضرورية لضمان الأمن المائي، وخاصة في الزراعة باعتبارها قطاعا حيويا للاقتصاد المغربي.

ومما لاشك فيه أن مخطط المغرب الأخضر، الذي أطلق في عام 2008، يهدف أساسا إلى تعزيز الممارسات الزراعية المستدامة، وحماية الأمن الغذائي، والحد من التأثير البيئي للزراعة. ويشمل هذا المخطط استثمارات في أنظمة الري الحديثة، والزراعة العضوية، والبيئية، والتي تهدف إلى زيادة الإنتاجية مع الحفاظ على الموارد الطبيعية.

على الرغم من هذه النجاحات، لا يزال المغرب يواجه تحديات في تحقيق أهدافه المتعلقة بالاستدامة بشكل كامل. ولا يزال التمدن والنمو السكاني والتفاوت الاقتصادي يفرض ضغوطًا على الموارد والنظم البيئية. علاوة على ذلك، غالبًا ما يواجه تنفيذ سياسات الاستدامة عقبات مؤسسية ومالية. ومع ذلك، فإن الآفاق تبقى واعدة، حيث التزمت الحكومة بمواءمة سياساتها مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة وتواصل الاستثمار في البنية التحتية الخضراء والصناعات المستدامة.

إن الاستدامة ليست مجرد قضية بيئية؛ بل إنها استراتيجية شمولية تدمج الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لتعزيز التنمية طويلة الأجل. وقد أسفر السعي إلى تحقيق الاستدامة بالفعل عن تقدم كبير في المغرب ، وخاصة في مجالات الطاقة المتجددة وإدارة المياه. ومع استمرار الدولة في معالجة تحدياتها والبناء على نجاحاتها، ستلعب الاستدامة دورًا متزايد الأهمية في تشكيل تنميتها المستقبلية. ومن خلال دمجها في جميع مجالات العمل - من الزراعة إلى التخطيط الحضري - يمكن للمغرب تسريع عمليات التنمية لضمان مستقبل مزدهر وعادل للجميع.


0 التعليقات: