طائر الطنان يعشش في بطن الريح، يفتح نافذة للفرح. والليل يتحدث بلا فم، فقط بأسنان من العاج الخالص – هناك نجوم صغيرة مكسورة تصطدم بينها مثل النرد القديم . وأنت تقف على منحدر الضحك، لكن قدميك الزلقتين مثل أوراق الشجر اليابسة تخونك.
تومض أضواء الشوارع وتطن مثل محركات بعيدة لمستقبل ضائع، وفي مكان ما يهمس ظل باللذة المسلوبة. لا تعرف من يستمع ولا تدري من ينتظر.
هناك، موكب الأطفال
في زمن مستعار، أيديهم ملطخة بحبر أحلام وردية لم يجرؤوا قط على كتابتها. يسحب القمر
السماء كبساط ريح فضفاض يفكك العالم. وأنت تسحب حافة أفكارك، فلا تجد سوى أصداء لغة
كنت تعرفها ذات يوم ولكنها الآن باتت غريبة في ذهنك.
يتدفق نهر أم
الربيع عبر المدينة، يبتلع الفرح بينما يتعرج مثل ثعبان الحزن. وماذا عن أولئك الذين
نهلوا من مياهه ؟ إنهم يضحكون - أوه، يضحكون
ويضحكون ! - لكن شفاههم تتلوى كما لو أنهم عضوا على ثمرة الفراغ، لا يزال المذاق الحلو
منذ الأمس عالقًا بألسنتهم. أنتم لا تتذوقون. أنت لا تشربون.
وأنت تحلم بعجلات تدور
تحت قدميك، تسحق الساعات والأيام والأسابيع، حتى لا يبقى سوى ورم الوقت الناعم مثل
نهد. تموت اللذة بهدوء، مثل طائر يسقط من السماء دون أن يلاحظه أحد. وأنت، المهزوم
الصامت، الشاهد الأخير على طيرانه.
النوافذ تحدق في الأرض
وكأنها تخجل من الليل. عقارب الساعة لا تتحرك، متجمدة في صلاة نسيت كيف تنتهي منها.
تنبض الحجارة المرصوفة الصقيلة تحت قدميك، ليس بالحياة ولكن بقشعريرة الذكريات - ذكريات
قديمة .. ثقيلة، يثقلها عرق أولئك الذين ساروا هنا ذات يوم. ربما ما زالوا يمشون، ظلال
في الزوايا لا تجرؤ على النظر إليها. لقد توقفوا منذ فترة طويلة عن أن يكونوا رجالاً
أو نساء. هم مجرد أصنام الآن.
هناك باب لا يمكنك
فتحه. لقد حاولت من قبل، وأصابعك ترتجف على المزلاج، لكنه يظل مغلقًا. خلفه، تتخيل
مساحة واسعة تتردد فيها الأصداء - ربما محيط، أو ربما مقبرة، أو كليهما معا. ربما لا
يكون أي منهما. وفوقه، سماء ليست كالسماء الزرقاء المشوبة بالغيوم التي تعرفها، بل
سماء من سواري الحجر والحديد، ثابتة لا تتحرك ولا تتغير، وكأنها منحوتة بأيدٍ الأزمنة
الغابرة.
تهمس الرياح باسمك،
لكنه ليس الاسم الذي ترد عليه. إنه اسم من قبل، قبل أن تدرك ثقل الزمن. قبل أن تعرف
ما معنى الخسارات. أنت لا ترد. تستمر في المضي قدمًا، عبر الشوارع التي تضيق حولك مثل
حبل المشنقة، والمباني تميل أكثر فأكثر على وجهك، حتى تضغط أسرارها على أذنيك. إنها
قديمة جدًا بحيث لا تغضب. متعبة جدًا بحيث لا تكره. لكنها تتذكر.
القمر يقهقه في هدوء.
لقد رأى العديد من أمثالك - محطمي الفرح، ومحاربي الليل. القمر يعرف أنك لن تدوم
طويلا . يراك تتقلص، قطعة تلو قطعة، بينما تتسرب الساعات من بين أصابعك كالرمل ، وتنزلق
إلى الظلال حيث ستنضم إليها ذكراك قريبًا.
لم تعد هناك متعة هنا،
فقط التآكل الناعم والبطيء للوقت، يقضم حواف كل شيء كنت تعتقد أنه حقيقي.
ليس البحر هو الذي
يناديك، بل الحفرة العميقة تحت الماء، تلك المساحة التي لا يلمسها الضوء، حيث الصمت
هو اللغة الوحيدة. وأنت تمشي عبر شوارع المدينة، لكن خطواتك لا تنتمي إلى الأرض. إنها
تحوم فوق الحجارة، ولا تلمسها أبدًا، وكأنها تخشى إيقاظ من ينامون تحتها.
الليل تلويحة يدان
وصوت تسمعه من حولك في تنهدات الأشجار وفي صرير الأبواب التي لم تفتح قط ، يلامس وجهك
كعاشق لا تعرفه، ولحظة تفكر في مد يدك لتشعر بوجوده لكن يدك ترتد إلى صدرك.
هناك جدران في المسافة
البعيدة ـ جدران لا تنتمي إلى بيوت أو قصور. إنها جدران عقلك، ترتفع وتعلو مع كل فكرة.
تلمسها بأصابعك، فتنبض بالحياة، بذكريات ليست لك. كل شق يحمل جزءًا من حلم، وكل حجر
يحمل جزءًا من حزن منسي.
السماء التي فوقك ليست
سماء بل مرآة تعكس ليس قبائل النجوم بل الأشياء التي تحت السطح. وأنت مجرد ظل في تلك
المرآة، جسد يتحرك بلا شكل. المرآة لا تكذب، لكنها لا تقول الحقيقة أيضًا. إنها كذلك
ببساطة.
لقد انزلقت الملذات
التي سعيت إليها من خلال شقوق أفكارك، ولم يبق سوى صدى غيابها. يطن الليل بهذا الصدى،
وأنت تستمع، مدركًا أنه لا توجد هزيمة هنا، بل فقط التفكك البطيء لما كان كاملاً ذات
يوم.
الحديقة ليست هنا.
تبحث عنها خلف كل ركن، لكنها تفلت منك كحلم منسي قبل الفجر. تتلألأ الفوانيس في ريح
لا مهب لها، يرقص ضوءها على جدران مصنوعة من الصمت. تمشي في الشوارع، وتمشي من خلالك،
تنسج نفسها في أنفاسك، نبضك، أفكارك.
ذات يوم، كنت تعرف
طعم الضحك ودسامة القهقهات. كانت حلوًة مثل فاكهة الخوخ الأزغب التي تنمو فقط في الغابات
المنسيّة. لكن الآن أصبح فمك جافًا، ولسانك مثقلًا بحجارة الكلمات التي لم تُقال. تشعر
بالليل يضغط على بشرتك، باردًا ومُلحًا، عاشقًا متلهفًا لاحتضانك.
تتعرج الشوارع وتدور،
ولا تقودك إلى أي مكان، ومع ذلك تتبع حماقاتها . هناك همسة، ناعمة ومنخفضة، على حافة
سمعك. تحاول جاهدًا التقاطها، لكنها تفلت منك، تاركة لك صدى وعدها فقط.
وهناك في البعيد، تدق
الساعة. يتردد صدى الصوت عبر الليل، كرنين يحمل ثقل قرون من الزمان. تشعر به في عظامك،
كتذكير بسيرورة الزمن التي لا هوادة فيها. ومع ذلك، في هذه اللحظة، يبدو الوقت وكأنه
ثابت، معلقً في شراك الأحلام والظلال التي تحيط بك.
الحديقة ليست هنا،
ولكنك لا تزال تبحث عنها.
الصمت ليس فارغًا،
بل ممتلئًا، مفعمًا بثقل الأشياء غير المعلنة. وميض في المسافة البعيدة - لهب أو فكرة،
من يستطيع أن يفرق؟ إنه يرقص، بعيدًا عن متناولك، ساخرًا من محاولاتك للإمساك به.
ينحني الليل حولك،
ويتخذ أشكالاً لا معنى لها. تمشي، لكن خطواتك ليست خطواتك الخاصة. ترتفع الأرض لمقابلتك،
وتتغير مع كل خطوة، وكأنها لغز بلا حل.
يتردد صدى الضحك من
مكان بعيد، صوت مألوف للغاية لدرجة أنه لا يبعث على الراحة. إنه يزعج أذنيك، ويترك
وراءه أثرًا من الظلال.
أنت لست ضائعًا، ولكنك
لم تجد نفسك أيضًا. أنت موجود في الفضاء بينهما، حيث يمد الليل أصابعه عبر السماء،
ممسكًا بالنجوم التي لم تعد تلمع.
أنت يا هازم اللذات،
ماذا ربحت أيها الموت من رحيلنا ؟
يركع الطفل بجانب النهر
الذي يتدفق صعوداً. تتتبع يداه مسار الماء، لكن الماء لا يلمسه. في الأعلى، تتحرك سماء
من الصفائح المعدنية ببطء، وكل حركة تردد صدى إيقاع قلبه. الأشجار شهود صامتون، جذورها
ملتوية مثل الحبال حول الذكريات المدفونة تحتها.
نافذة مفتوحة ولكن
بلا زجاج تؤطر مشهدًا لا ينتمي إلى هذا العالم. خلفها يقف شخص، وظهره مائل، بلا حراك
كتمثال منحوت من الضباب. لا يتنفس هذا الشخص. تنتظر، لكنه لا يتحرك.
إن وقع خطواتك على
الحجارة المرصوفة بالحصى يضج بالهواء، مثل رنين الجرس في بلدة قفر لا يعيش فيها أحد.
تمر قطة على الرصيف في طريقك، وتتلألأ عيناها بمعرفة قديمة للغاية لا تستطيع التحدث
عنها. تراقبك، لكنها لا تقول شيئًا. تهز رأسك وكأنك تفهم، لكن عقلك ينزلق على حافة
المعنى.
البيت في نهاية الطريق
يقف ساكنًا. ليس مهجورًا، لكنه غير مأهول أيضًا. الباب مفتوح جزئيًا، لكن لا ضوء ينبعث
من الداخل. تقترب، ويصبح الهواء كثيفًا من حولك، ويثقل كاهلك، ويثقل أفكارك. تبدو جدران
البيت وكأنها تتنفس، تتمدد وتتقلص مع إيقاع نبضك.
تقف أمام الباب، متردداً،
والصمت يضغط عليك من كل جانب. تمد يدك إلى المزلاج ، لكن يدك تمر عبره، ولا تمسك بشيء
سوى الهواء. يظل المنزل ثابتاً لا يتحرك، نصباً تذكارياً لشيء نسيه الناس منذ زمن بعيد،
شيء لم يكن من المفترض أن تتذكره أبداً.
ينظر الطفل عند النهر
إلى الأعلى، فتلتقي عيناه بعينيك. يبتسم، وفي تلك الابتسامة ترى نهاية كل شيء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق