الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، سبتمبر 25، 2024

" قريبا من نهاية الجسر" نص سردي عبده حقي


لم أطرقه.. انفتح الباب شفافا مثل فكرة. كان الموت جالسًا هناك في الركن الصقيعي، لا ينظر أو ينتظر، لكنني شعرت بنظراته تدور حول أركان الغرفة. ارتجفت الحيطان مثل أسئلة بلا إجابات. همس لي فجأة :"تعال" بدون صوت، فقط بإشارات متعالية. تبعته. أجل تبعته ليس لأنني اخترت ذلك، ولكن لأن العالم أصبح فجأة صغيرًا وضيقًا جدًا، وأنفاسه تتسرب من خلال شقوق الآجال.

جلسنا معا على الأرض بلا حراك مثل صديقين قديمين، ومع ذلك كانت الأرض تدور تحتنا بسرعة تفوق سرعتها الفيزيقية في المجرة . حاولت التحدث، لكن الكلمات خرجت مثل فقاعات الصابون، واختفت قبل أن أتمكن من استيعابها. التف الوقت في دوامة، أو ربما موجة، تحطم بهدوء، مرارًا وتكرارًا، داخل قفصي الصدري. التفت الغرفة على نفسها، وانطوت في أبعاد تجريدية ، وطبقات من الوجود يتقشر يباسها بسهولة ، لتكشف عن مكان يتجاوز المعنى.

هل ما زلت هنا يا ذاك الإنسان!!؟

وهل كنت هناك من قبل؟

أغمضت عيني، لكن الظلام كان مفعما بنور ينبض بألوان لا اسم لها.

كانت لمسة الموت باردة، لكنها لم تكن باردة كثلاجة المشرحة. بل كانت نوعا ما دافئة، مثل بطن قبر في البيداء، أو فكرة نجم يتلألأ على حافة الإدراك.

"هل هذا هو...؟"

سألت، أو ربما لم أفعل. ربما طرح السؤال نفسه، معلقًا في الهواء بيننا، غير قابل للمس.

في خارج الغرفة ، كانت الأشجار تهفهف بأسرار لم أستطع فهمها، وكانت أغصانها تتلوى في السماء مثل الأيدي التي تمتد إلى شيء لا يمكنها أبدًا الإمساك به. استجابت السماء في صمت، لكن الصمت كان يصم الآذان، ويهتز بنغمات منخفضة جدًا لا تستطيع الأذن التقاطها.

شعرت أننا تحركنا من دون حاجتنا إلى حركة، وتجاوزنا الحدود بلا عبور، حتى وصلنا إلى المكان الذي لا يوجد فيه معنى للمكان. شعرت بيد الموت، أو ربما كانت يداي، ترشدني إلى الأمام. أو إلى الخلف. أو إلى لا مكان على الإطلاق. فجأة فتحت عيني، وكان الباب قد اختفى.

وفي لحظة طفا وجه غريب أمامي. لم أكن متأكدًا ما إذا كان هذا الوجه لشخص أعرفه، أم أنه تشكل من عجين الضباب. مددت يدي، لكن يدي مرت من خلاله . كان الشارع ضيقًا، محاطًا بظلال منحنية بزوايا غير طبيعية.

وكان الموت يرافقني ويسير بجانبي، أو ربما كان ظل شيء موجودًا دائمًا، يراقبني بهدوء.

"إنه ليس بعيدًا "، همس الموت، رغم أنني لم أسأله. أومأت برأسي على أي حال.

انعطفنا حول زاوية، وأصبح الشارع أكثر ظلامًا، وبدأت الأضواء في الأعلى تتلألأ، ليس بسبب رذاذ النسيم، بل بسبب شيء أعمق، خط صادع في نسيج الزمن.

"ثم ماذا سيأتي بعد ذلك؟"

سألت، على الرغم من أن السؤال بدا وكأنه معلق في الهواء منذ نزول آدم وحواء من الفردوس.

لم يستجب الموت لسؤالي، لكنني كنت أعرف الإجابة. كنت أعرفها دائمًا. استمر الطريق، وأصبح أكثر انحدارًا، وانحنى بعيدًا عن نفسه، مما قادنا إلى ضباب كثيف لدرجة أنني لم أعد أستطيع رؤية الطريق. لكنني شعرت به، وجذبته، وهمهمة حتمية هادئة تحت قدمي.

دقت الساعة، لم أستطع أن أحصي دقاتها. فقد امتزجت مع بعضها البعض، واندمجت مع الظلال.

امتد الطريق بلا نهاية. عادت الرؤوس للظهور، وهي تتدحرج أمامي، وتتلاشى في الضباب. وما زال الموت يسير بجانبي، صامتًا، ثابتًا، وكأننا لم نبدأ هذه الرحلة أبدًا، وكأننا لن ننهيها أبدًا.

كان مذاق الهواء يشبه رائحة الليل. استنشقته، غير متأكد إن كان حقيقيًا أم حلمًا .. نسيت أن أستفيق من تخذيره. كان الموت يقف بجانبي، ليس كشبح يحمل منجلا ، بل كفكرة، تحوم قريبا من متناول يدي.

مشينا معًا، دائما الموت وأنا ، رغم أن قدمي لم تلمس الأرض قط. كان هناك طريق، لكنه كان طريقًا لا يؤدي إلى أي مكان، أو إلى كل مكان، أو إلى كليهما. كانت الأشجار تهمس لبعضها البعض، وكانت أصواتها خافتة للغاية لدرجة أنني لم أستطع سماعها، لكنني كنت أشعر بكلماتها تتدفق عبر الهواء مثل أصداء بعيدة.

"إلى أين نحن ذاهبان سيدي الموت ؟"

سألته، لكن الموت لم يجب. لم يكن بحاجة إلى ذلك. انفتحت السماء، وألقت بلحاف ظلامها علينا، وغمرت الأرض بالصمت الأزلي.

لقد تحركنا ، أو تحرك هو من خلالنا، وأومضت النجوم، وهي تراقبنا، رغم أنها لم تكن ترى مثلنا. انكشف الزمن، وامتدت كل لحظة أكثر من حيزها، وتباعدت أطرافها، حتى لم يبق شيء سوى الفراغ بين نفس ونفس.

كان الموت حاضرا، ولم يكن موجودًا. كان حضورًا بلا شكل، وفكرًا بلا كلمات. وتبعته، لأنه لم يكن هناك شيء آخر يمكنني فعله غير ملاحقة الموت كل يوم.

كان برج ساعة البيج بانج في مدارة الشارع متجمدًا، وعقاربها معلقة في الهواء، عالقة بين دقات الساعة الواحدة والأخرى. مررت بالبرج دون أن ألقي عليه نظرة ثانية. أعتقد أنه كان دائمًا على هذا النحو.

لقد قابلني الموت عند البوابة، كان عبارة عن شخصية متخفية في الظل، ولكن ليس من النوع الذي يلقيه الضوء. كلا، لقد كان هذا ظلًا ولد من السكون، من النوع الذي يظل منتصبا على حافة الحلم. لقد أشار إليّ، وتبعته، ليس بقدمي، بل بكل كياني.

سرنا عبر شوارع لم أتعرف عليها، رغم أنها بدت مألوفة بالنسبة لي، مثل الأماكن التي نراها عادة بزاوية العين، بعيدة عن متناول أيدينا دائمًا. كانت المباني مائلة فوقنا، وتهمس لنا بأسرار بلغة لم أفهمها، وكانت نوافذها مظلمة وخاوية، وتحدق بنا وكأنها ذكريات منسية.

السماء خفيضة، تضغط على العالم، مثقلة بشيء لا أستطيع تسميته. كانت النجوم تتلألأ وتختفي، ليست نجوم سماء الليل، بل نجوم من جنس مختلف، نائية وباردة، تحترق من الداخل.

وكان الموت يتململ في صمت، وشكله يتغير مع كل خطوة، مثل أدخنة في مهب الريح. لم أستطع رؤية وجهه، رغم أنني لم أكن متأكدًا من وجود وجه له. لم يكن الأمر مهمًا. كان الهواء من حولنا يطنطن بإيقاعات الترقب، طنينًا أسفل السطح مباشرة، يرتجف في الوقت المناسب مع دقات قلبي.

أم أنه قلب الموت؟ لم أستطع معرفة ذلك.

وها نحن قد وصلنا إلى نهر واسع وهادئ، سطحه أملس كالزجاج ـ أو ليس زجاجاً، بل شيئاً أقدم من الرمل، شيئاً منسياً. كان الماء يتلألأ بانعكاس ألف لحظة، لم تكن أي منها لحظاتي، ولكنها كانت مألوفة. امتد الموت، وانشق السطح، كاشفاً عن مسار يمتد إلى الأفق، منحنياً بعيداً عن الأنظار.

ترددت. وللمرة الأولى، شعرت بثقل العالم يضغط عليّ، ويسحبني إلى الوراء. لكن لمسة الموت كانت لطيفة ومطمئنة.

"لقد حان الوقت"

قال لي الموت بلطف ودعابة، رغم أن الكلمات لم تكن كلمات على الإطلاق، بل شيئا أعمق، معرفة تنبض في داخلي.

خطونا على الطريق ثلجي ، وانغلق النهر خلفنا، وحاصرنا في صمت. امتد الطريق متعرجًا عبر المناظر الطبيعية التي تحولت وتلاشى وضوحها، وكأن الواقع نفسه كان يتكشف من حولنا. الأرض تحت قدمي ناعمة، تنهار مع كل خطوة، ومع ذلك لم أتعثر أبدًا.

الموت يتحرك بجواري، حضوره ثابتً، رغم أن شكله استمر في التحول، مندمجًا مع الظلال من حولنا. سرنا في صمت، عبر عالم لم يكن عالمًنا، بل ذكرى عالم، يتلاشى على حوافه.

استمرت الرحلة بلا نهاية، حتى بدا أن الزمن نفسه قد تلاشى. وصلنا إلى نقطة لم يعد لها معنى، مكان يتجاوز المكان، حيث التقت السماء بالأرض واختفى كل شيء بينهما.

كان الموت يقف بجانبي، أو ربما لم يكن كذلك. لم أعد أستطيع أن أحدد أين انتهيت وأين بدأت.

حلمت بقطار يسافر عبر الضباب، وصافرته صامتة. والموت يجلس في العربة الأخيرة، يحدق من نافذة لا تعكس شيئًا. أنا هناك، أو ربما أنا الضباب، أجول بين القضبان. نتحرك للأمام، لكن المشهد يظل ثابتًا، متجمدًا في لحظة طويلة جدًا. طائر يحلق، لكن أجنحته لا تتحرك. توقف الزمن، ومع ذلك نتحرك، بلا نهاية، نحو محطة لن تصل أبدًا. يتحول الموت، وعيناه مثل المرايا، يظهر لي عالمًا لم أره أبدًا.

وجدت مفتاحًا عمره كعمر الأزل، لكن الباب لم يكن به قفل. أدرت المفتاح في يدي، وشعرت بثقله ودفئه الغريب. ظهر الموت، ليس أمامي، بل في الفراغ بين التقاط نفس ونفس، في صوت الساعة التي لم تعد تدق.

"إلى أين أنت أيها الموت ذاهب بي !؟"

سألت، لكن السؤال سقط سهوا في الهواء مثل حجر في الماء، يتدفق إلى الخارج دون أن يجد إجابة أبدًا.

أخيرا وقفنا في غرفة، أو ربما كانت حقلاً، أو ربما لم تكن أياً منهما. كانت الجدران مطلية بظلال قزحية، كل منها له شكل مختلف، تتحرك، وترقص في ضوء شمعة متوهجة تحترق بلا لهب. مددت يدي لألمس واحدة منها، لكنها انزلقت من بين أصابعي، ولم يبق لي سوى شعور بشيء لا يمكن الإمساك به أبدًا.

ابتسم الموت، رغم أنه لم يكن له شفتان، وأشار إلى النافذة. كان الزجاج يلمع، ومن خلاله، رأيت السماء الزرقاء تنشق، ليس بالضوء، ولكن بنوع من الظلام الذي ابتلع كل شيء. طار عصفور عبر الأفق، ورسم بجناحيه خطوطًا في الهواء تتلاشى بمجرد ظهورها.

"لقد تأخرنا"

قال لي الموت، رغم أن صوته لم يكن مفعما بالإلحاح. أومأت برأسي، رغم أنني لم أفهم.

بدأت الغرفة، أو الحقل، أو أي شيء آخر، في التفكك، وبدأت حوافها تتقشر مثل نسيج قديم. شعرت بنفسي أسقط، لكنني في كل الأحوال لم أقع في حفرة قبر.

0 التعليقات: