الجزائر، البلد المغاربي الغني بالموارد الطبيعية تجد نفسها اليوم في صراع مع مزيج معقد من الركود الاقتصادي والجمود السياسي والاضطرابات الاجتماعية. فبعد عقود من الاستقلال، لم تتحقق وعود الرخاء لغالبية السكان. وفي قلب هذه الأزمات يكمن نظام سياسي يتسم بالاستبداد ونخبة حاكمة جامدة ومعزولة ــ وهو النظام الذي يوصف غالبا من خلال مجهر "نظرية القوقعة". وتكشف هذه النظرية، كما تطبق على الجزائر، عن الآليات التي تمكنت بها قيادة البلاد من الحفاظ على السلطة في حين ظلت منفصلة عن الحقائق اليومية لمواطنيها.
منذ استقلالها عن فرنسا
في عام 1962، تأرجحت الجزائر بين فترات من الديمقراطية الاسمية والاستبداد الراسخ.
ورغم إجراء الانتخابات، فإنها تُعَد رمزية إلى حد كبير، حيث تعمل نتائجها على تعزيز
الوضع الراهن. أما القوة الحقيقية فهي في أيدي نخبة صغيرة تتألف من القادة العسكريين
وأجهزة الأمن والشخصيات السياسية المرتبطة بجبهة التحرير الوطني الحاكمة منذ فترة طويلة.
وقد صاحب هذا التركيز للسلطة في أيدي قِلة من الناس غياب الإصلاح السياسي الهادف، حتى
مع تطور مطالب الشعب الجزائري.
إن النظام السياسي
في الجزائر يعمل في واقع الأمر كدكتاتورية ناعمة. ففي حين يبدو ظاهرياً وكأنه ديمقراطية
ذات دستور وانتخابات، فإن العملية السياسية يتم التلاعب بها لمنع أي تحد كبير للنخبة
الحاكمة. ويتم استقطاب شخصيات المعارضة الرئيسية أو إسكاتها، وتواجه منظمات المجتمع
المدني التي تتحدى الوضع الراهن المضايقات أو القمع الصريح. ويقترن هذا التحكم الاستبدادي
بالاعتماد على عائدات النفط والغاز لتهدئة السخط العام، الأمر الذي يزيد من عزلة القيادة
عن مطالب التغيير. ولكن مع تضاؤل هذه العائدات، فإن قدرة الحكومة على الحفاظ على
السيطرة من خلال المحسوبية تتعرض لاختبار شديد.
يعتمد اقتصاد الجزائر
بشكل كبير على صادرات النفط والغاز، والتي تمثل ما يقرب من 95٪ من عائدات التصدير في
البلاد. إن تقلب أسواق النفط العالمية له تأثير عميق على اقتصاد البلاد، وفي السنوات
الأخيرة، أدى الانخفاض الحاد في أسعار النفط إلى عجز في الميزانية، وخفض الإنفاق العام،
وزيادة الصعوبات الاقتصادية للسكان. وعلى الرغم من ثروتها من الموارد الطبيعية، فقد
كافحت الجزائر لتنويع اقتصادها، وظلت تعتمد بشكل كبير على قطاع الهيدروكربون. وقد أدى
هذا الافتقار إلى التنويع الاقتصادي إلى جعل البلاد عرضة بشكل خاص للصدمات الخارجية.
وتتفاقم الأزمة الاقتصادية
بسبب تضخم القطاع العام، وارتفاع مستويات البطالة، وخاصة بين الشباب، والتضخم. وفشلت
الحكومة في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي من شأنها أن تعزز القطاع الخاص الأكثر ديناميكية
أو تخلق فرص عمل مستدامة. والفساد مستشري، مع تركيز القوة الاقتصادية في أيدي نخبة
صغيرة متصلة سياسيا. ونتيجة لهذا، تعمق التفاوت الاقتصادي، واستمر تدهور نوعية حياة
المواطن الجزائري العادي.
وعلى الصعيد الاجتماعي،
أدى هذا الركود الاقتصادي إلى تأجيج السخط على نطاق واسع. وأصبحت الاحتجاجات أكثر تواترا،
حيث يطالب المواطنون بظروف معيشية أفضل وفرص عمل وحريات سياسية. وتجسد حركة الحراك،
التي بدأت في عام 2019، الإحباط المتزايد لدى الجزائريين إزاء نظام يبدو منفصلا بشكل
متزايد عن نضالاتهم اليومية. ومع ذلك، في حين نجحت الحركة في إجبار الرئيس عبد العزيز
بوتفليقة على ترك منصبه بعد 20 عاما، إلا أنها لم تؤد بعد إلى تغييرات كبيرة في البنية
السياسية الأوسع.
ولكي نفهم النظام السياسي
في الجزائر على نحو أفضل، يمكننا أن نلجأ إلى النظرية السياسية المعروفة باسم
"نظرية القوقعة". وهذا المفهوم، الذي تم تطويره في الأصل لوصف أنظمة الحكم
التي تحافظ على السلطة من خلال خلق حاجز منيع بين الحكام والمحكومين، وثيق الصلة بالوضع
الحالي في الجزائر. وتفترض النظرية أن القيادة في الأنظمة الاستبدادية تخلق "قوقعة"
واقية حول نفسها، تعزلها عن المطالب الشعبية والنقد والمساءلة. ويتم الحفاظ على هذه
القوقعة من خلال مزيج من الإكراه والتلاعب والتنازلات الاقتصادية الخاضعة للرقابة.
في الجزائر، تتكون
القوقعة من عدة طبقات. ففي قلبها يوجد الجهاز العسكري والأمني، الذي كان تاريخياً هو
المحكم النهائي للسلطة السياسية. وتحيط بهذا القلب الطبقة السياسية، التي تتألف في
المقام الأول من جبهة التحرير الوطني والجماعات التابعة لها، والتي تساعد في إدارة
جهاز الدولة والحفاظ على وهم الحكم الديمقراطي. وتتكون الطبقة الخارجية من شبكة من
المحسوبية التي تربط الدولة بشخصيات الأعمال المؤثرة، وزعماء القبائل، والمسؤولين المحليين،
الذين يتم تحفيزهم لدعم النظام من خلال الوصول إلى الريع الاقتصادي والامتيازات.
إن هذا النظام، على
الرغم من فعاليته في الحفاظ على السيطرة، يعاني من عيوب كبيرة. أولاً، إنه يخلق زعامة
أصبحت منفصلة بشكل متزايد عن الشعب. ومن خلال عزل نفسها داخل القوقعة، تصبح النخبة
الحاكمة أكثر اهتمامًا بالحفاظ على مصالحها الخاصة بدلاً من تلبية احتياجات المجتمع
الأوسع. ثانياً، إنه يخنق الإبداع والإصلاح. ولأن الهدف الأساسي للزعامة هو الحفاظ
على الوضع الراهن، يتم تجنب أي إصلاحات كبيرة من شأنها أن تهدد توازن القوى داخل القوقعة.
وهذا يؤدي إلى شلل السياسات ويمنع البلاد من التكيف مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية
الجديدة.
إن الأزمات الاقتصادية
والاجتماعية الحالية في الجزائر تختبر حدود النظام. فمع انخفاض عائدات النفط وتراجع
قدرة الحكومة على توفير المنافع الاقتصادية، يجد النظام نفسه أكثر عرضة للخطر. وتفقد
الأساليب التقليدية للسيطرة ــ الإكراه، والاستقطاب، والتنازلات الاقتصادية ــ فعاليتها
في مواجهة السخط العام المتزايد. وعلاوة على ذلك، أثبت الحراك أن الجزائريين لم يعودوا
على استعداد لقبول التغييرات السطحية. وتتزايد المطالبات بالإصلاح السياسي الحقيقي
والشفافية والمساءلة.
ولكن تكسير القوقعة
ليس بالمهمة السهلة. فقد أظهر النظام استعداده لاستخدام القوة لقمع المعارضة، ولا يزال
الجيش يشكل طرفاً قوياً له مصالح راسخة في الحفاظ على النظام الحالي. فضلاً عن ذلك،
تظل المعارضة مجزأة، ولا يوجد بديل واضح للنخبة الحاكمة. وفي غياب رؤية سياسية أو قيادة
موحدة، تظل احتمالات الانتقال السلمي إلى الديمقراطية غير مؤكدة.
إن النظام السياسي
في الجزائر، كما تم تحليله من خلال نظرية القوقعة، يكشف عن نظام نجح في عزل نفسه عن
المطالب الشعبية ولكنه يواجه الآن ضغوطاً متزايدة من الداخل. إن الأزمات الاقتصادية
والاجتماعية، التي تفاقمت بسبب انخفاض عائدات النفط، تعمل على تآكل أسس هذا النظام.
وفي حين تمكن النظام من الحفاظ على السيطرة حتى الآن، فإن المطالبات المتزايدة بالإصلاح
السياسي والاقتصادي تشير إلى أن القوقعة قد لا تصمد إلى أجل غير مسمى. وسوف يعتمد ما
إذا كانت الجزائر قادرة على الانتقال إلى نظام أكثر شمولاً وديمقراطية على قدرة قادتها
على الخروج من القوقعة وتلبية الاحتياجات الملحة لشعبها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق