تُعَد الصحة النفسية حجر الزاوية في رفاهة الفرد وتقدم المجتمع. ومع ذلك، في المغرب، تم تهميش هذه القضية إلى حد كبير، على الرغم من الانتشار المقلق للاضطرابات النفسية. حيث تسلط الأرقام الأخيرة لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية الضوء على حقيقة صارخة: يعاني ما يقرب من نصف المغاربة - 48.9٪ - من اضطراب نفسي أو عانوا منه. وبينما تبدو الأرقام وكأنها تؤكد على حجم التحدي، يكشف التحليل الأعمق عن فجوات نظامية حرجة، بما في ذلك النقص الحاد في المتخصصين في الصحة النفسية. مع وجود أقل من طبيب نفسي واحد لكل 100000 شخص، يواجه المغرب ما يعتبره العديد من الخبراء حالة طوارئ صحية عامة.
وتكشف الإحصائيات التي
قدمها الوزير أمين التهراوي للجنة القطاعات الاجتماعية عن اتساع نطاق هذه القضية. فقد
برزت الصحة العقلية كمشكلة صحية عامة مهمة في المغرب، تعكس الاتجاهات العالمية ولكن
مع تحديات وطنية فريدة. والرقم 48.9٪ ليس مجرد رقم؛ بل يمثل ملايين النفوس المتأثرة
بحالات تتراوح من القلق والاكتئاب إلى الاضطرابات النفسية الشديدة.
ومع ذلك، فمن المرجح
أن يكون هذا الانتشار أقل من التقديرات. فالوصمة الاجتماعية المحيطة بالصحة العقلية
في المغرب غالبًا ما تمنع الأفراد من طلب المساعدة أو حتى الاعتراف بمعاناتهم. ويعاني
العديد من الأشخاص في صمت، وتتفاقم حالتهم بسبب الافتقار إلى الوصول إلى الرعاية والمفاهيم
المجتمعية الخاطئة حول المرض العقلي.
إن جوهر أزمة الصحة
العقلية في المغرب يكمن في البنية التحتية الهشة للرعاية الصحية، وخاصة في مجال الرعاية
النفسية. إن اعتراف وزارة الصحة بوجود أقل من طبيب نفسي واحد لكل 100 ألف شخص يرسم
صورة قاتمة. وعلى سبيل المقارنة، توصي منظمة الصحة العالمية بوجود ما لا يقل عن 10
أطباء نفسيين لكل 100 ألف شخص لتلبية الاحتياجات الأساسية للصحة العقلية.
ويتفاقم هذا العجز
بسبب عجز الموارد الأخرى. فهناك نقص في الممرضات النفسيات وعلماء النفس والمساعدين
الاجتماعيين، الأمر الذي يجعل النظام عاجزاً عن تلبية الطلب على الرعاية والاهتمام
عن قرب . والمرافق الصحية النفسية الموجودة قليلة ومتباعدة، وغالباً ما تتركز في المناطق
الحضرية، الأمر الذي يخلق حواجز كبيرة أمام سكان القرى. ويضطر العديد من المرضى إلى
السفر لمسافات طويلة، والانتظار لفترات طويلة، أو التخلي عن الرعاية تماماً.
ورغم أن أوجه القصور
النظامية تشكل أهمية بالغة، فلا يمكن تجاهل السياق السوسيو- ثقافي. إذ تظل الصحة العقلية
وصمة عار شديدة في المجتمع المغربي. وكثيراً ما يواجه أولئك الذين يعانون من اضطرابات
نفسية أحكاماً مسبقة أو تمييزاً أو تهميشا. وقد تخفي الأسر حالة أحد أفرادها خوفاً
من العار المجتمعي بدلاً من طلب المساعدة الطبية.
إن هذه الوصمة متجذرة
في معتقدات ثقافية ودينية راسخة، حيث يُعزى المرض العقلي أحيانًا إلى أسباب خارقة للطبيعة،
مثل المس أو اللعنات أو السحر. ونتيجة لهذا، غالبًا ما يصبح المعالجون التقليديون نقطة
الاتصال الأولى، مما يصرف الأفراد عن الرعاية الطبية القائمة على الأدلة العلمية
والنفسية . إن الافتقار إلى حملات التوعية والتثقيف حول الصحة العقلية يعمل على ترسيخ
هذه المفاهيم الخاطئة.
وتلعب الحقائق الاقتصادية
في المغرب أيضًا دورًا مهمًا في أزمة الصحة العقلية. إذ تساهم معدلات البطالة المرتفعة
وانعدام الأمن الاقتصادي وعدم المساواة الاجتماعية في تدهور الصحة العقلية للسكان.
ولا تؤدي هذه العوامل إلى زيادة خطر الإصابة بعاهات الصحة العقلية فحسب، بل تحد أيضًا
من القدرة على الوصول إلى الرعاية.
إن المغرب لا يخصص
سوى جزء ضئيل من ميزانيته الصحية للصحة العقلية ــ وهو أقل كثيراً من المعايير الدولية.
ويترجم هذا النقص في التمويل إلى البنية الأساسية المحدودة، وبرامج التدريب غير الكافية
للمهنيين، والتدخلات المجتمعية الضئيلة. وفي غياب الاستثمار الكبير، يظل النظام غير
مستعد لتلبية الطلب المتزايد على الخدمات.
إن العواقب المترتبة
على عدم علاج الأمراض العقلية عميقة. فقد يعاني الأفراد من تدهور الصحة البدنية، وتدهور
العلاقات الاجتماعية، وانخفاض الإنتاجية. وعلى المستوى المجتمعي، يمتد التأثير إلى
الخسائر الاقتصادية، وزيادة تكاليف الرعاية الصحية، وانتشار التشرد والسجن بين الأفراد
غير المعالجين.
غالبًا ما تتحمل الأسر
العبء الأكبر من هذه الحالات ، سواء عاطفيًا أو ماليًا. وفي غياب الدعم المهني الكافي،
تقع مسؤوليات الرعاية على عاتق أفراد الأسرة، الذين قد يفتقرون إلى المعرفة أو الموارد
اللازمة لتوفير الرعاية الكافية. يمكن أن تؤدي هذه الديناميكية إلى خلق دورات من التوتر
والخلل الوظيفي التي تكرس صراعات الصحة العقلية عبر الأجيال.
إن معالجة أزمة الصحة
العقلية في المغرب تتطلب منهجًا متعدد الأوجه يتناول الحواجز النظامية والثقافية والاقتصادية.
ويمكن أن تكون الاستراتيجيات التالية بمثابة خريطة طريق للإصلاح:
إن توسيع القوى العاملة
يشكل خطوة أولى بالغة الأهمية. ويتعين على المغرب أن تدرب وتحتفظ بعدد أكبر من الأطباء
النفسيين وعلماء النفس وممرضات الصحة العقلية. ومن الممكن أن تساعد برامج المنح الدراسية،
والرواتب التنافسية، والحوافز للمهنيين للعمل في المناطق المحرومة في سد الفجوة.
إن زيادة عدد المستشفيات النفسية ومراكز الصحة
النفسية المجتمعية أمر ضروري. كما يمكن للعيادات المتنقلة وخدمات الرعاية الصحية عن
بعد أن تعمل على توسيع نطاق الرعاية إلى المناطق النائية والريفية، مما يحسن من إمكانية
الوصول إليها.
إن المغرب يقف عند
مفترق طرق في تعامله مع الصحة العقلية. وينبغي للبيانات والمعلومات الأخيرة الصادرة
عن وزارة الصحة أن تكون بمثابة جرس إنذار يسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى الإصلاح.
ومن خلال تبني استراتيجية شاملة وحساسة ثقافيا وممولة بشكل كاف في مجال الصحة العقلية،
يمكن للمغرب أن يقلب مسار هذه الآفة الصامتة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق