كثيرا ما كان دور المثقفين محفوفًا بالمخاطر، لا سيما في العالم العربي، حيث يجدون أنفسهم غالبًا في مواجهة واقع تُشكّله الرقابة السياسية، وعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، والقدرة التحويلية للتكنولوجيا.
تاريخيًا، لعب المثقفون دورًا حاسمًا في تشكيل الخطاب العام ، وتحدي السرديات السائدة، والدعوة إلى التطور الاجتماعي. إلا أنهم يواجهون اليوم تحديًا مزدوجًا: استمرار القمع الاستبدادي والتأثير المزلزل للتقنيات الرقمية. إن هذا التقاطع بين السيطرة والتغيير يثير تساؤلاتٍ مُلحّة حول جدوى الفكر المستقل في عصرٍ تسعى فيه كلٌّ من الدولة والقوى المجتمعية إلى تشكيل المشاركة الفكرية والحد منها.
لمجهر الرقابة في العالم العربي تاريخٌ طويلٌ من المكائد، تشكل من الإرث الاستعماري،
والحركات القومية، ثم الضغوط المستدامة للأنظمة الاستبدادية.
منذ أوائل القرن العشرين وحتى يومنا هذا، تعرض المثقفون لقمع ممنهج، وكتمت أصواتهم
حكومات ترى في معارضي سياساتها تهديدًا مباشرًا للاستقرار. وسواءً من خلال الرقابة
المباشرة أو السجن أو النفي القسري، دفع المثقفون العرب ثمنًا باهظًا لانخراطهم في
القضايا السياسية والاجتماعية.
في العالم العربي، استُهدف العديد من المثقفين، بمن فيهم الصحفيون والكتاب والأكاديميون،
لجرأتهم وتحديهم في خطاب الدولة. وقد طورت دول مثل الجزائر وتونس وسوريا آليات متطورة
للسيطرة، بما في ذلك قوانين الصحافة التقييدية والمراقبة وتجريم المعارضة. وحتى في
المجتمعات الأكثر انفتاحًا نسبيًا، غالبًا ما يواجه المثقفون عقبات بيروقراطية وقانونية
تحد من قدرتهم على النشر بحرية أو المشاركة في الخطاب العام.
على سبيل المثال في الجزائر سُجن الصحفي والناشط الحقوقي إحسان القاضي عام 2023
لانتقاده حكومة الجنرالات. كما تواجه وسائل الإعلام المستقلة أحكام التشميع والإغلاق،
مما ما يعرض حرية التعبير للخطر.
ومنذ استيلاء الرئيس قيس سعيد على السلطة عام 2021، اعتُقل العديد من المثقفين
والصحفيين. أشهرهم جوهر بن مبارك، وهو شخصية معارضة وخبير دستوري، لانتقاده النظام.
وفي الشرق لعربي أجبرت عقود من القمع في ظل الأنظمة الاستبدادية على رأسها نظام
بشار الأسد العديد من المثقفين على اللجوء إلى المنفى. من بين الحالات البارزة ياسين
الحاج صالح، الكاتب المعارض الذي فرّ من البلاد، وميشيل كيلو، المفكر السياسي الشهير
الذي سُجن عدة مرات قبل وفاته في المنفى.
من نتائج هذا القمع هو نشر ثقافة خوف التي تخنق الابتكار والنقاش. غالبًا ما
لا يجد المثقفون الذين يسعون إلى تحدي الأيديولوجيات السائدة أو الدعوة إلى الإصلاح
سوى خيارات محدودة: الرقابة الذاتية، أو النفي، أو التهميش. أما المثابرون، فغالبًا
ما يجدون أنفسهم على خلاف مع الدولة والقوى المجتمعية المحافظة التي تقاوم التغيير.
من جانب آخر في حين أن الثورة الرقمية فتحت آفاقًا جديدة للخطاب الفكري، إلا
أنها طرحت أيضًا تحديات جديدة. لقد كان الإنترنت يُنظر إليه سابقًا كأداة لتكريس الديمقراطية،
إذ يوفر للمثقفين بديلًا عن وسائل الإعلام التقليدية التي تسيطر عليها الدولة. إلا
أنه عمليًا، أصبحت المنصات الرقمية سلاحًا ذا حدين، إذ تُضخّم المعلومات المضللة وتُمكّن
الدولة من تفعيل آليات الرقابة.
على سبيل المثال، لقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي جذريًا طريقة تطور النقاشات
الفكرية. فبينما أتاحت للمثقفين العرب وصولًا غير مسبوق إلى جمهور عالمي، إلا أنها
اختزلت الخطاب إلى تبادلات سطحية ومجزأة.
من جهة أخرى أدى صعود الشعبوية وانتشار الأخبار الكاذبة إلى تعقيد دور المثقف،
مما صعّب عليه الانخراط في نقاشات دقيقة وهادفة. في كتابها "عصر رأسمالية المراقبة"،
تُسلّط الخبيرة الاقتصادية شوشانا زوبوف الضوء على كيفية أن تسليع المعلومات قد خلق
بيئةً غالبًا ما تطغى فيها الإثارة القائمة على الخوارزميات على التفكير النقدي.
في العالم العربي، تبنت الحكومات المراقبة الرقمية كوسيلة للسيطرة على التعبير
الفكري. وكثيرًا ما يجد النشطاء والباحثون الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي
لتحدي سياسات الحكومة أنفسهم هدفًا للهجمات الإلكترونية والمضايقات، بل وحتى الاعتقال.
وهكذا، يقوّض تدخل الدولة والطبيعة الفوضوية للمنصات الرقمية وعود الإنترنت كمساحة
حرة للحوار الفكري.
إلى جانب الرقابة والتحديات الرقمية، يواجه المثقفون العرب مشكلة التراجع المؤسسي
المتنامية. فقد عانت الفضاءات التقليدية للتفاعل الفكري، مثل الجامعات ودور النشر ووسائل
الإعلام المستقلة، من ضغوط سياسية واقتصادية.
لقد أدت خصخصة التعليم العالي، وتراجع الصحافة المطبوعة، والتحديات المالية
التي تواجهها دور النشر المستقلة، إلى زيادة صعوبة إعالة المثقفين من خلال أعمالهم.
وتعرضت الأوساط الأكاديمية العربية، التي كانت في السابق معقلًا للدقة الفكرية،
لتدخلات سياسية متزايدة. وكثيرًا ما تم الضغط على الجامعات للتوافق مع أيديولوجيات
الدولة، مما يُثبط الفكر النقدي والبحث المستقل. كما أدى خفض التمويل وإعطاء الأولوية
للتخصصات التقنية على العلوم الإنسانية إلى تهميش المثقفين، مما دفع الكثيرين منهم
إلى البحث عن فرص في الخارج.
يُعاني المثقفون في العديد من الدول العربية من عدم الاستقرار الاقتصادي. ففي
العديد من الدول العربية، يُكافح المثقفون من أجل إيجاد استقرارهم المالي، مما يُجبرهم
على القيام بأدوار تُهدد استقلاليتهم. وغالبًا ما يُصاحب الاعتماد على التمويل الحكومي،
مما يُحد من نطاق المشاركة النقدية ويُعزز ثقافة التوافق.
وعلى الرغم من هذه التحديات، يواصل المثقفون العرب إيجاد سبل لتأكيد أهميتهم.
وقد لجأ بعضهم إلى منصات إعلامية بديلة، فأنشأوا منشورات رقمية مستقلة، وبودكاست، ومنتديات
إلكترونية تتجاوز المؤسسات التقليدية التي تسيطر عليها الدولة. بينما تبنى آخرون مناهج
متعددة التخصصات، تجمع بين وجهات النظر السياسية والفلسفية والعلمية لإشراك جمهور أوسع.
في البلدان التي يُقيد فيها الخطاب الفكري النقدي بشدة، لعب الشتات دورًا حاسمًا
في استدامة المشاركة النقدية. وأنشأ المثقفون المنفيون مراكز أبحاث، ومنشورات إلكترونية،
ومبادرات ثقافية تُمثل منصات بديلة للفكر الحر.
إن صمود المثقفين العرب، كطيور الفينيق، يكمن في قدرتهم على إعادة تعريف دورهم
مع الحفاظ على التزامهم بالحقيقة والعدالة.
إن محنة المثقفين في العالم العربي ليست مجرد صراع شخصي؛ بل هي انعكاس لحالة
المجتمع على نطاق واسع. فالمجتمع الذي يهمّش المثقفين يُعرّض نفسه لخطر الركود والتلاعب
بذهنيته المتنورة والهيمنة الاستبدادية. والسؤال ليس ما إذا كان المثقفون سيصمدون،
بل ما إذا كانت المجتمعات العربية ستدرك القيمة الأساسية للفكر المستقل قبل فوات الأوان.
وكما قال ألبير كامو ذات مرة: "الحرية هي فرصة للأفضل". إن مهمة المثقفين
في العالم العربي لا تقتصر على مقاومة القمع فحسب، بل إعادة تعريف مكانتهم في عالم
سريع التطور. وسواءً من خلال المنصات الرقمية، أو المؤسسات البديلة، أو الحراك الشعبي،
يبقى دور المثقف بالغ الأهمية كما كان دائمًا.
إن بقاء الفكر الفكري في العالم العربي سوف يعتمد على قدرة المجتمعات على تعزيز
بيئة حيث لا يتم التسامح مع المشاركة النقدية فحسب، بل وتقديرها كحجر الزاوية للتقدم
والعدالة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق