في ظلّ الموت الأسود، برزت رواية جيوفاني بوكاتشيو "الديكاميرون" كشهادة على صمود واستماتة البشرية، لوحةً من الحكايات التي نسجها عشرة مواطنين فلورنسيين يبحثون عن ملاذهم في السرد. ومع ذلك، فإن هذه التحفة الإيطالية ليست صرحًا معزولًا؛ بل هي تنهض على أسسٍ وُضعت قبل قرون في صحاري ومدن العالم العربي. إن هذا التفاعل يكشف بين أعمال بوكاتشيو والتقاليد السردية العربية عن روحٍ مشتركة: سرد القصص كفعلٍ للبقاء وجسرٍ بين عوالمٍ مزقتها الأزمات.
في عمق هذا التقاطع تكمن الحكاية الإطارية - وهي أداة أدبية قديمة قدم "البانتشاتانترا"،
وباقية كألف ليلة وليلة. هذا الأخير، وهو حجر الزاوية في السرد القصصي العربي، يعكس
"الديكاميرون" في بنيته: إطارٌ محفوفٌ بالمخاطر (حكايات شهرزاد الليلية لتجنب
سيف الإعدام) يضم قصصًا متداخلة عن الحب والخداع والحساب الأخلاقي.
وباعتبارها كقافلةٍ تشق طريقها عبر رمال متحركة، تبحر هذه السرديات عبر التهديدات
الوجودية، مقدمةً ملاذًا من الخيال. يستخدم رواة بوكاتشيو، مثل شهرزاد، القصص للتغلب
على اليأس، مما يوحي بحوارٍ عابرٍ للقارات بين الثقافات التي تُقدّر الذكاء والحكمة
كترياقٍ للفوضى.
لقد حملت التيارات التاريخية هذه التقاليد عبر البحر الأبيض المتوسط. لم تكن
الحروب الصليبية وطريق الحرير مجرد طرقٍ للغزو أو التجارة، بل قنواتٍ للأفكار.
لقد عرّفت المخطوطات العربية، المترجمة في مراكز مثل طليطلة وباليرمو، أوروبا
على أشكالٍ سرديةٍ شكلت نهضتها الأدبية. يُبرز الباحث باولو ليموس هورتا، في كتابه
"لصوصٌ عجيبة: مؤلفو ألف ليلة وليلة السريون"، كيف أن الحكايات العربية
"مُصفّاة، ومُكيّفة، ومُعاد إحياءها" في السياقات الأوروبية. ومن المُرجّح
أن بوكاتشيو، الذي كتب في القرن الرابع عشر، صادف هذه القصص من خلال إعادة سرد شفهي
أو نصوص مُجزأة، ناشرًا جوهرها في نسيجه الخاص.
إن أوجه التشابه الموضوعية تعمق هذه الصلة حيث يتلذذ كلا التراثين بقوة الفكاهة
والسخرية المُزعزعة. في "ديكاميرون"، تُحاكي قصة ألاتيل - ابنة تاجر مغامراتها
المُؤسفة في الحبّ الغزلي - مغامرات جحا الجريئة، الشخصية المُخادعة الشائعة في الفولكلور
العربي. وبالمثل، تمزج المقامات، وهي نوع من النثر العربي المُقفّى الذي جسده الحريري
البصري، بين التعاليم الأخلاقية والفكاهة المتهورة، على غرار مزج بوكاتشيو بين المقدس
والدنيوي.
لا تقتصر هذه السرديات على التسلية فحسب؛ بل تُسائل الأعراف المجتمعية، مستخدمةً
الضحك كمشرط لتشريح النفاق.
ومع ذلك، تتجاوز هذه القرابة البنية والموضوع إلى وظيفة السرد ذاتها. في ألف
ليلة وليلة، تُمثّل حكايات شهرزاد شريان حياة، تُؤخّر موتها فجرًا تلو آخر. وفي ديكاميرون،
يُصبح فعل السرد طردًا جماعيًا لنحس الوباء والحزن. وكما لاحظ إيتالو كالفينو،
"لا يهرب رواة بوكاتشيو من الطاعون؛ بل يتجاوزونه بالكلمات". وعلى غرار
ذلك يُردد المثل العربي "الحكاية نور"، الذي يعتبر السرد نورًا في الظلام.
كلا التراثين لا يعتبران رواية القصص هروبًا من الواقع، بل كيمياءً تُحوّل الخوف إلى
قدرة على الصمود.
ولا تزال أصداء هذا التكافل قائمة في العصر الحديث. خلال جائحة كوفيد-19، أحيت
مبادرات مثل "مشروع ديكاميرون" في "مجلة نيويورك تايمز" نموذج
بوكاتشيو، بينما قام كتّاب عرب مثل حسن بلاسم بتكييف قصة الإطار لنقد النزوح المعاصر.
إن مثل هذه المشاريع، مثل خانات القوافل القديمة، تُتيح الراحة والتأمل وسط الأوبئة
الحديثة، مما يُثبت خلود هذه الاستراتيجيات السردية.
إن قراءة "ديكاميرون" إلى جانب السرد القصصي العربي هي بمثابة مشاهدة
حوار عبر الزمان والمكان. إنه تذكير بأن الأدب، كالماء في الصحراء، يتدفق بحرية، مُعينًا
أولئك الذين يجرؤون على الاستماع - وعلى الرواية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق