الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أغسطس 07، 2025

بين باريس والجزائر: عام من الجليد الدبلوماسي والتقاطع السياسي: عبده حقي


ها نحن نطوي صفحة عامٍ كامل منذ اندلاع الأزمة الأعنف بين الجزائر وفرنسا، عامٌ بدأ في الثلاثين من يوليوز 2024، لكنه ما زال يتغذّى على مزيد من التوتر، وكأن الجراح التي خلفها الزمن استعصت على الالتئام. أكتب هذه السطور في بداية غشت 2025، وقد تجاوزنا الذكرى الأولى لهذه القطيعة السياسية والدبلوماسية، دون أن نرى بصيص ضوء في نهاية هذا النفق المعتم.

أعترف، لم أكن أتصور أن تصل الأمور إلى هذا الحد من الانهيار، حيث بدا البلدان وكأنهما في خصومة لا هوادة فيها. كل ما يربط بين باريس والجزائر صار في حكم الجمود، بل إن وزير الخارجية الفرنسي نفسه صرّح مطلع غشت أن العلاقات «في حالة موت سريري»، رغم وجود محاولات خجولة خلف الكواليس لتخطيط طريق محتمل نحو تطبيع تدريجي بنهاية العام.

أتابع هذه التفاعلات مثلما يتابع المرء مسلسلاً طويلاً، تتوالى فيه الحلقات بأحداث متشابكة ومتشظية. كل فصل من فصول هذه الأزمة يضيف طبقة جديدة من التعقيد: بدءًا من اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء، مرورًا باعتقال الروائي كمال داود في الجزائر، ثم حملة التحريض التي شنها مؤثرون محسوبون على النظام ضد معارضين جزائريين في المنفى، وانتهاءً بما أطلق عليه “ملف بوم بن ساي.

هذا الأخير، أحد أبرز المتورطين في هجمات باريس الإرهابية عام 1995، أمضى عقوبته كاملة في السجون الفرنسية، والآن، بعد ثلاثين عامًا من الاعتقال، تقف فرنسا على أعتاب إطلاق سراحه. لكنها تطلب من الجزائر أن تستعيده باعتباره مواطنها. وهنا تنشأ عقدة جديدة: فالجزائر تلتزم الصمت، فهي لا ترفض علنًا ولا توافق في السر. صمتٌ مريبٌ يوحي أكثر بالمأزق منه بالحكمة.

وفي خضم كل ذلك، تبرز ثلاثة أسماء باتت تمثل مراكز ثقل في هذه الأزمة: «بوم بن ساي»، «بام سنسال»، و»بوم بوم» — أسماء تتكرر في التقارير الدبلوماسية والإعلامية وكأنها رموز في معادلة سياسية معقدة.

«بام سنسال»، الكاتب والمثقف ذو الجنسية المزدوجة، الذي لا يزال خلف القضبان رغم تعهدات جزائرية سابقة بإطلاق سراحه ضمن عفو رئاسي. لكن تلك الوعود تلاشت كما يتلاشى السراب. السلطات الفرنسية اعتبرت ما حدث خدعة، فيما بدا النظام الجزائري كأنه عاجز عن التراجع عن شيطنة الرجل بعد أن صوّرته آلة الدعاية كخائن وعميل مزدوج.

 

أما «بوم بوم»، مدير ديوان تبون، فقد تحوّل إلى قناة اتصال غير رسمية مع باريس، وهناك من يراه المرشح الأوفر حظًا ليكون السفير الجزائري الجديد في فرنسا. التقديرات تشير إلى أنه يسعى لمغادرة المشهد السياسي عبر منصب دبلوماسي يمنحه الحصانة والابتعاد الآمن، في حال لم يترشح تبون لولاية ثالثة.

لكن وسط هذا الضجيج، يبرز اسم آخر بحذر: «كريستوف غليز»، الصحافي الفرنسي الذي اعتقلته الجزائر بتهمة “تمجيد الإرهاب” لمجرد أنه أجرى مقابلات صحفية مع معارضين من حركة الماك. الحكم عليه بالسجن سبع سنوات اعتبره الإعلام الفرنسي والحقوقيون فضيحة مدوية. لكن في الكواليس، يبدو أن النظام الجزائري يحضّر لإطلاق سراحه في جلسة استئناف، كورقة ضغط في مقابل تجاهل قضية بام سنسال.

إنها لعبة شطرنج قذرة، فيها تُستخدم الحرية كأداة مساومة، ويُساوم بمصير الأفراد على طاولات المصالح. لكن ما لا يدركه صناع القرار أن بام سنسال ليس مجرد فرد، بل رمزٌ دولي تتسع قضيته يومًا بعد يوم، في أوروبا، وأمريكا اللاتينية، وحتى داخل الأوساط الثقافية الفرنسية ذاتها.

قد ينجح النظام الجزائري في المناورة، في إقناع باريس بمقايضة بام سنسال بغليز، لكنه لن يستطيع أن يُخمد صدى هذه القصة. لأنه في حال وفاته، لا قدّر الله، ستكون عواقبها كارثية، أخلاقيًا وإنسانيًا، وسيلاحق هذا العار الطرفين لسنوات.

أشعر وأنا أتابع هذه الفصول أننا دخلنا متاهة تُدار بالعناد لا بالحكمة، بالتكتيك لا بالرؤية. قد يتغير المشهد في حال رحيل الوزير الفرنسي «برونو ريتايو»، الذي تعتبره الجزائر العقبة الأكبر، وقد يكون البديل أكثر مرونة، لكن من دون معالجة جوهرية لقضية سنسال، لن تكون هناك مصالحة حقيقية.

قد تُقدَّم بعض التنازلات، وتُنسج بعض الروايات الرسمية حول «انفراج»، لكن الحقيقة تبقى دامغة: العلاقات الجزائرية-الفرنسية في أزمة وجود لا أزمة مناسبات. والمصالحة الحقيقية لن تأتي من صفقات خلف الستار، بل من اعتراف متبادل بالأخطاء، واحترام لكرامة الإنسان… دون استثناء.

وفي انتظار ذلك، أكتب، وأرقب، وأتمنى أن أكتب ذات يوم عن عودة الدفء إلى الضفتين، لا على جمرات الخديعة، بل على أرضية من العدالة والاحترام المتبادل.

0 التعليقات: