الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أغسطس 05، 2025

الانتحار الاقتصادي في الجزائر يدمر مستقبل آلاف العمال والموظفين؟: ترجمة عبده حقي


في قلب صيف مشتعل، وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة، تُقدِم السلطة الجزائرية على تنفيذ سياسات تبدو، بكل المقاييس، انتحارية في حق الاقتصاد الوطني ومئات الآلاف من العاملين فيه. ما يحدث منذ 1 يوليو 2025 ليس مجرد خلل إداري أو سوء تقدير ظرفي، بل هو قرار سياسي مقصود، امتدت تبعاته لتشل قطاعات حيوية وتدفع آلاف الشركات نحو الإفلاس، وتضع ملايين العائلات في مهب العوز والتشرد.

منذ أن تم منح كامل الصلاحيات لكمال رزّيق، أحد أبرز رموز السياسات الاقتصادية المتشددة، دخلت آلاف الشركات الجزائرية المنتجة في حالة شلل شبه تام. أكثر من 33 ألف مؤسسة إنتاجية، منها 42 ألف كانت تصدّر جزءاً من إنتاجها، لم تعد قادرة على العمل بسبب احتجاز معداتها وموادها الأولية في الموانئ الجزائرية من قِبل الجمارك، بأمر من وزارة التجارة ووفق تعليمات جديدة مرهقة تتعلق بالإجراءات البنكية والتصاريح الاستيرادية.

إن ما حدث لم يكن مفاجئًا، بل نتيجة مباشرة لسياسة ممنهجة تم تبنيها منذ عام 2020، بحجة الحفاظ على احتياطي النقد الأجنبي عبر خفض فاتورة الاستيراد. إلا أن خفض الاستيراد دون تعزيز الإنتاج المحلي ودون توفير البدائل ليس إلا وهماً اقتصادياً. فالجزائر لا تستطيع إنتاج كل مدخلات الصناعة محليًا، ولا توجد أي دولة حديثة تنجح في تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل دون الاعتماد على التجارة الدولية المتوازنة.

تشير الإحصاءات الرسمية إلى وجود أكثر من 186 ألف شركة إنتاجية نشطة في الجزائر، يشغل القطاع الخاص منها ما يقارب 63% من اليد العاملة. ومن بين هذه الشركات، هناك نحو 79 ألف مؤسسة صغيرة ومتوسطة تعمل في صناعات دقيقة ومتنوعة كصناعة الأغذية، النسيج، قطع الغيار، الأثاث، والمعدات التقنية. توقف هذه المؤسسات عن الإنتاج، أو عرقلته، يعني في المحصلة تسريح عشرات الآلاف من العمال الذين يعيلون أسرًا بأكملها، في ظل ارتفاع أسعار السلع الأساسية واستمرار معدلات التضخم.

وتزامنًا مع فصل العطل السنوية، اختارت السلطة هذا التوقيت بالذات لتكثيف قيودها، مدركة أن موجات التسريح الجماعي ستتأخر حتى عودة العمّال في سبتمبر. لكن الواقع واضح: المئات من المؤسسات بدأت بالفعل بوضع عمّالها في عطلة غير مدفوعة الأجر، فيما شرعت أخرى في التحضير لتسريحات جماعية بسبب استحالة الاستمرار في تحمل الأعباء التشغيلية في ظل غياب الإنتاج.

إن الرؤية التي تحرك هذه السياسات ليست اقتصادية بقدر ما هي بيروقراطية سلطوية ترتاب من القطاع الخاص وتخشى استقلاليته. والمفارقة أن الدولة، بدلاً من دعم هذا القطاع الذي يمثل القلب النابض لأي اقتصاد صحي، تقوم بتجفيف موارده وخنقه تنظيمياً، متسببة في فقدان آلاف فرص العمل، وزيادة نسب البطالة، وتوسيع رقعة الفقر، وكل ذلك باسم «حماية العملة الصعبة».

لكن أي حماية هذه التي تؤدي إلى انهيار البنية الصناعية؟ وأي مصلحة في الحفاظ على الاحتياطي النقدي إذا كان الثمن هو تجويع الشعب، وتعطيل الإنتاج، وتدمير آليات توليد الثروة؟

إن الرأسمال الذي لا يُستثمر يفقد قيمته. والاحتياطات التي لا تُوظف في دعم الإنتاج والنمو تتحول إلى عبء على الاقتصاد بدلاً من أن تكون وسادة أمان. فالنمو لا يُبنى على التقشف، بل على الاستثمار في الإنتاج والتصدير وتوسيع قاعدة الاقتصاد. وكل عرقلة في سلسلة الإنتاج، كل تأخير في الإفراج عن المواد الأولية، هو طعنة في قلب الاقتصاد الجزائري، وطريق مختصر نحو التبعية الاقتصادية من جديد.

ما يُرتكب اليوم بحق آلاف المؤسسات المنتجة ليس مجرد خطأ يمكن تصحيحه لاحقًا، بل هو تهديد مباشر لركائز الاقتصاد الوطني. وإذا لم يُراجع هذا النهج فورًا، وإذا لم تُرفع القيود، ويتم الاعتراف بحق القطاع الخاص في العمل بحرية ضمن إطار شفاف وواضح، فإن الجزائر ستشهد خلال الأشهر القادمة موجة انهيارات اقتصادية لن ينفع معها أي خطاب سياسي أو وعود إعلامية.

أمام هذا المشهد الكارثي، لا بد من التحرك العاجل – ليس لإنقاذ أرباح الشركات – بل لإنقاذ أرزاق المواطنين، ومستقبل الاقتصاد، وكرامة العمل المنتج في بلد يملك من الكفاءات والثروات ما يؤهله ليكون نموذجًا، لا حالة إنذار دائمة.

0 التعليقات: