الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أغسطس 05، 2025

قراءة نقدية في كتاب ويتني فيليبس "لماذا لا نستحق أشياء جميلة" ترجمة عبده حقي


مما لا شك فيه أن الثقافة الرقمية قد منحتنا أدوات تواصل لا حدود لها، وفضاءً مفتوحاً للتعبير والتفاعل والمشاركة. إلا أن هذا الفضاء، كما تُظهره ويتني فيليبس في كتابها الجريء "This Is Why We Can't Have Nice Things"، " "هذا هو السبب في أننا لا نستطيع الحصول على أشياء لطيفة" " قد تحول في حالات كثيرة إلى حلبة للصراعات، وساحة لإنتاج خطاب الكراهية، ومرآة تعكس أعطاباً اجتماعية ونفسية عميقة.

الكاتبة، وهي باحثة متخصصة في الإعلام الرقمي، تقودنا في هذا العمل إلى عمق شبكة الإنترنت حيث تتشابك السياسة، والسخرية، والتضليل، والتنمر، في شبكة معقدة من الديناميات الثقافية التي تُعيد تشكيل معنى "المرح" و"المزاح" و"الانتقاد". وهي لا تكتفي بسرد ما يحدث في أعماق المنتديات ومواقع التواصل، بل تقدم تحليلاً دقيقاً للكيفية التي تتحول بها الممارسات الهامشية إلى ظواهر عامة، وإلى أدوات للتأثير السياسي والثقافي في الفضاء العام.

من المزاح إلى الهجوم: كيف تتسلل السخرية إلى قلب الكراهية؟

من أكثر المحاور إقناعاً في الكتاب هو تفكيك فيليبس للعلاقة بين "الميمات" الساخرة وخطابات الكراهية. فالكثير من الحملات التي تبدأ بصيغة المزاح – على سبيل المثال، استخدام الصور الساخرة أو التعليقات التهكمية – تنتهي إلى حملات تحريضية وتشهيرية، بل وأحياناً عنصرية وجنسية. تشير الكاتبة إلى أن هذه الممارسات كثيراً ما تتخذ طابعاً "ما بعد حداثياً"، حيث يتم تبرير العنف اللفظي تحت غطاء "اللا معنى" أو "العبث"، وهو ما يجعل مساءلة الفاعلين أمراً صعباً لأنهم ببساطة "كانوا يلهون فقط".

لكن هذا اللهو، كما تؤكد فيليبس، ليس بريئاً، بل يعكس عمقاً مؤسسياً في الثقافة الأمريكية خاصة، حيث تتقاطع الهويات العرقية، والجندرية، والسياسية، وتنتج تفاعلات لا يمكن فصلها عن التاريخ الاستعماري، والسلطوي، والذكوري.

سياسات التضليل: من الترفيه إلى التلاعب

يتناول الكتاب أيضاً دور "الترولز" أو مثيري الجدل على الإنترنت في نشر الأخبار الكاذبة والمضللة. وتوضح الكاتبة كيف يتم التلاعب بالمعلومة من خلال استخدام تكتيكات السخرية، أو الاستفزاز، أو التلاعب بالمشاعر. وتُظهر فيليبس، من خلال دراسات حالة واقعية، كيف ساهمت هذه الحملات في توجيه الرأي العام الأمريكي، بل وتأثيرها في الانتخابات، ومنها الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016.

هذه الظاهرة – أي انتقال "الترولينغ" من لعبة رقمية إلى أداة سياسية – توضح أن ما كان يُنظر إليه كمجرد نكتة رقمية، تحول إلى قوة مدمرة قادرة على تقويض الحقيقة وتزييف الوعي.

المسؤولية الأخلاقية للمتابعين وليس فقط للفاعلين

أحد أبرز النقاط التي تثيرها فيليبس في هذا العمل، وربما أكثرها جرأة، هي تحميل المسؤولية ليس فقط لأولئك الذين يمارسون الترولينغ أو التنمر، بل أيضاً للمتابعين، والمشاركين، والمتفرجين، وأولئك الذين يعيدون النشر أو التفاعل دون تفكير في العواقب.

بحسب فيليبس، فإن "مشكلة الإنترنت ليست في الترولز فقط، بل في البنية الثقافية التي تحتضنهم، وتكافئهم، وتمنحهم جمهوراً". وهنا يصبح السؤال الأخلاقي أكثر تعقيداً: ما دورنا كمستهلكين للمحتوى في إنتاج بيئة رقمية مسمومة؟

تحليل أسلوبي وبنيوي

أسلوب فيليبس في الكتاب يجمع بين السرد الشخصي والتحليل الأكاديمي، مما يمنح العمل عمقاً مزدوجاً: فهو موجّه للقارئ العادي، كما يمكن استخدامه في الفصول الجامعية حول الإعلام الرقمي والثقافة المعاصرة. وقد اعتمدت الكاتبة على تحليل الخطاب، والأنثروبولوجيا الرقمية، بالإضافة إلى مقابلات وشهادات من داخل مجتمعات الترولينغ، لتبني أطروحاتها.

وقد تميزت لغة الكتاب بالوضوح والدقة، لكنها لا تبتعد عن السخرية المقنّعة أحياناً، وهو ما يتماشى مع موضوع الدراسة نفسه، مما يضفي على العمل طبقة أسلوبية متجانسة مع المحتوى.

لماذا لا نستحق الأشياء الجميلة؟ سؤال نقدي عميق

يظل عنوان الكتاب ذاته استفزازياً: "This Is Why We Can’t Have Nice Things"، وكأنه يسخر من الإنسان الرقمي الذي يبحث عن الجمال في عالم مشوّه من الكراهية والتنمر والتلاعب. لكنه في الوقت نفسه يُحيل إلى نقد ثقافي عميق: كيف يمكن أن ننتج فناً، جمالاً، تواصلاً إنسانياً حقيقياً، في بيئة لا تكف عن إعادة تدوير السخرية والكراهية؟

الجواب، في رأي فيليبس، لا يكمن في مزيد من الرقابة أو منع المنصات، بل في إعادة بناء المنظومة الأخلاقية التي تتحكم في سلوكنا الرقمي، وفي مساءلة البنية الثقافية والاجتماعية التي تجعل من الكراهية شكلاً من أشكال الترفيه.

خاتمة

كتاب "This Is Why We Can’t Have Nice Things" ليس فقط دراسة عن الإنترنت، بل هو تشريح للوعي الجماعي المعاصر، حيث تتشابك السياسة، والفكاهة، والمعلومات، في شبكة من التوترات الأخلاقية والثقافية. في زمن تتراجع فيه الحدود بين الحقيقي والافتراضي، تقدم ويتني فيليبس خريطة نقدية لفهم لماذا أصبحت "الأشياء الجميلة" صعبة المنال في عالم رقمي اختلط فيه اللعب بالخطر، والمرح بالعنف، والمزاح بالكراهية.

هذا الكتاب دعوة للتفكير، وليس فقط للقراءة.

0 التعليقات: