منذ أن قرأت مراجعة لكتاب "Cultural Globalization and Its Effects on Society" للباحث جون توملينسون، شعرت وكأنني أطوف عبر أمواج متلاطمة من الأسئلة والقلق والآمال. فأنا، ككاتب مغربي اعتاد أن ينحت كلماته في صخر الهوية الوطنية، وجدت نفسي مضطراً إلى مساءلة تصورات قديمة حول معنى الثقافة، حدودها، وتحوّلاتها في زمن العولمة.
إن توملينسون لا يقدّم إجابات جاهزة، بل يفتح بوابات التأمل. ببساطة مذهلة وعمق فلسفي لا تخطئه العين، يناقش هذا الباحث كيف تحولت الثقافة من كونها مرتبطة بجغرافيا واضحة المعالم إلى كيان عابر للحدود، محمولاً على أجنحة الاقتصاد العالمي، وسائل الإعلام، والهجرة الكثيفة.
ما أثار إعجابي في
أطروحة توملينسون هو رفضه القاطع للقراءات السطحية التي تنظر إلى العولمة الثقافية
كحركة "استعمارية" جديدة، تكتسح الخصوصيات المحلية وتحولها إلى نسخ مشوهة
من المركز الغربي. إنه يدعونا إلى تجاوز هذا الخطاب الضيق، ليقترح علينا مفهوما آخر:
العولمة ليست مجرد قهر، بل هي أيضا سيرورة معقدة من التفاعل، التهجين، وإعادة التشكيل.
في أحد فصول الكتاب،
يرسم لنا المؤلف صورة حية للكيفية التي تتداخل بها الثقافات، لا من موقع الضعف فقط،
بل أيضاً من موقع الفعل والمبادرة. يتحدث، على سبيل المثال، عن كيفية إعادة تأويل الهوية
الوطنية في دول الجنوب —ومن ضمنها المغرب— لتكون أكثر انفتاحاً وقابلية لاستيعاب التأثيرات
الخارجية، دون فقدان جوهرها العميق. كنت أجد في هذا التحليل صدى لتجربتنا المغربية،
حيث تتجاور الجلابية مع الجينز، ويصدح الأذان إلى جانب أغاني الراب، دون أن يشعر الفرد
بالانفصام.
ومع ذلك، لا يغفل توملينسون
عن التحذير من الجوانب السلبية. فهو يرصد ما يسميه "التجانس الثقافي"، حيث
تغدو الخصوصيات المحلية مهددة بالذوبان داخل ثقافة كونية موحدة، صيغت مفرداتها في استوديوهات
هوليوود ومطابخ شركات التكنولوجيا الكبرى. وهنا شعرت بالقلق يتسلل إليّ. هل نحن فعلاً
مقبلون على عالم بلا تنوع؟ عالم حيث تصبح فاس والدار البيضاء، ومراكش وطنجة مجرد مدن
نسخ طبق الأصل من نيويورك أو لندن؟
غير أن ما يميز هذا
الكتاب هو ذلك الحذر المنهجي الذي يتعامل به مع المواقف المتطرفة. توملينسون، كما فهمته،
يرفض نظرة الحنين المثالي إلى ماضٍ ثقافي نقي، كما يرفض في الوقت ذاته الانبهار الساذج
بآليات السوق الكونية. إنه يطالبنا بتبني موقف نقدي مزدوج: أن نحمي ما هو ثمين في تراثنا،
لكن أيضاً أن نسمح لنسغ الحياة بأن يجري في عروق ثقافتنا من جديد، عبر الحوار مع الآخر.
في أكثر من موقع، يستخدم
المؤلف استعارة "الترجمة الثقافية"، وهي استعارة وجدتها غاية في البلاغة.
فالعولمة، بحسبه، ليست استنساخا ميكانيكياً، بل عملية ترجمة مستمرة، تنطوي على اختيار،
تفسير، وتعديل. وكل ترجمة —كما نعلم— تخون الأصل قليلاً، لكنها تضمن له في المقابل
حياة جديدة.
أتذكر وأنا أقرأ تحليلاته
كيف أن المطبخ المغربي نفسه هو مثال حي على هذه الفكرة. أليس الكسكس، الذي بات رمزاً
وطنياً، نتاج لقاء طويل بين الأمازيغ والعرب والأندلسيين والأفارقة؟ أليست ربابة الرايسين
التي تطرب بها أهازيج سوس وليدة تداخلات ثقافية لا حصر لها؟
من الناحية المنهجية،
يُحسب لتوملينسون اعتماده على مقاربات متعددة التخصصات: فهو يحاور علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا،
ودراسات الإعلام، والفلسفة السياسية. هذه الرؤية الشمولية تجعل الكتاب أشبه بلوحة فسيفساء،
تتداخل فيها القطع دون أن تفقد كل منها لونها الخاص.
ومع ذلك، شعرت أن المؤلف
كان أحياناً يميل إلى التجريد المفرط، متجاهلاً بعض الديناميات السياسية العنيفة التي
تواكب العولمة الثقافية، لاسيما في دول الجنوب. كنت أتمنى لو أنه خصص حيزاً أكبر للحديث
عن مقاومات الهيمنة الثقافية، عن حركات استعادة الهوية، أو حتى عن النضالات الرقمية
الحديثة كما رأيناها في حراك "الربيع العربي".
في النهاية، خرجت من
قراءة هذا الكتاب وأنا أكثر وعياً بتعقيدات العصر الذي نحياه. لم يعد ممكناً بالنسبة
لي أن أنظر إلى الثقافة بوصفها جزيرة معزولة، ولا أن أرى العولمة كوحش كاسر ينبغي الفرار
منه. صرت أدرك أن المسألة ليست خياراً بين العزلة والانصهار، بل هي حوار دائم بين الأصيل
والمستحدث، بين الجذور والأجنحة.
وهكذا، ونحن نعيش في
المغرب هذا التداخل العجيب بين الألفية الثالثة وأصداء التاريخ العميق، أجدني أردد
مع توملينسون: لعل العولمة الثقافية، رغم كل أخطارها، تمنحنا فرصة ثمينة لنكون أكثر
وعياً بأنفسنا... وأكثر قدرة على إعادة كتابة حكايتنا بألف لغة ولغة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق