الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أبريل 17، 2025

«أيها العرب التطبيع أرحم من التضبيع» بقلم: ليلى الكرملية


نعم، أنا المواطنة التي تجرأت على قول ما لا يُقال، والتي لم تعد تحتمل تلك المسرحيات الخطابية التي تُعرض كلما ورد اسم إسرائيل في جلسات "الممانعة". أنا تلك التي تتابع عن كثب مهرجانات النحيب الجماعي على شرف "فلسطين"، بينما لا تزال أكياس الدقيق المدعوم تُهرّب من أسواقنا إلى الثكنات الموازية، وكأن كل القضايا قابلة للمقايضة، عدا تلك التي تمس لقمة خبزنا ومكانتنا في هذا العالم المتشابك.

كلما فتحت التلفاز أو تصفحت منصات التواصل، تصادفني جوقة من الحناجر التي تصف نفسها بـ "مناهِضي التطبيع". صرخات لا تهدأ، وكأنها مبرمجة على وضعية الهجاء التلقائي. لكن لحظة فقط: ألم يخبرونا يوماً أن العدو الحقيقي هو التخلف؟ الفساد؟ غلاء المعيشة؟ أم أن مواجهة هذه الكوابيس تتطلب شجاعة من نوع آخر؟ يبدو أن الصراخ على إسرائيل أسهل بكثير من نقد مسؤول محلي أو محاسبة جماعة ترابية.

أتساءل بمرارة لا تخلو من السخرية: متى تحوّلت القضية الفلسطينية إلى مرآة نحجب بها وجوهنا الحقيقية؟ متى أصبح رفض التطبيع ديباجة جاهزة نخفي بها فشلنا في إصلاح منظومة التعليم؟ أو صك غفران نغسل به أيدينا من الفساد الإداري؟ عجيب أمر هذه الجماعات، ترفع شعارات عربية قومية مهترئة، بينما العالم العربي نفسه منشغل بالتطبيع أو التطوير، أو الإثنين معاً!

أنا فلسطينية أبا عن جد كرملية ولا أنكر أهمية القضية الفلسطينية، ولا أقلل من معاناة أهلنا، ولكنني أطرح على هؤلاء الصارخين سؤالاً بسيطاً: كم منكن يعرف أسماء القرى الفلسطينية التي تُمحى اليوم عن الخريطة؟ كم منكن قرأ تاريخ القضية من مصادر متعددة؟ بل كم منكن يدعم فعلياً الشعب الفلسطيني خارج دائرة المنشورات الفيسبوكية والشعارات الجوفاء؟

التطبيع، رغم ما يُقال عنه، ليس جريمة مطلقة، بل قد يكون أحياناً خياراً واقعياً. إسرائيل دولة متقدمة في التكنولوجيا، الزراعة، الأمن السيبراني، والبحث العلمي. ونحن؟ لا نزال نتجادل إن كنا نستحق إصلاح التعليم، أم نكتفي بترديد النشيد الوطني بصوت مرتعش. إن المكاسب السياسية والاقتصادية والثقافية الممكنة من علاقات بناءة مع إسرائيل ليست وهماً، بل واقع تدعمه أرقام السياحة، والمشاريع المشتركة، والتبادل العلمي الذي بدأ يشق طريقه في مغرب اليوم.

هؤلاء الذين يهاجمون التطبيع من باب "الكرامة العربية" ينسون أن أغلب الدول العربية قد طبّعت، أو تستعد للتطبيع بهدوء واحتشام ، من الخليج إلى السودان. هل هم جميعاً خونة؟ أم أننا وحدنا نحمل ختم الطهارة القومية؟ ليت شعاراتهم كانت بفعالية اللقاحات أو بذكاء الابتكارات. لكنها، ويا للأسف، أوراق صفراء تتطاير في مهب الحنين الزائف إلى أمجاد عربية لم تعُد موجودة إلا في الكتب المدرسية.

أنا لا أطلب منهم "الانبطاح" ولا الصمت، بل أطلب فقط أن يُفكروا بعقلانية وابراغماتية طويلة المدى . أن يكونوا مناهضين للتطبيع، نعم، ولكن بعقل، لا بهتاف. أن يناقشوا مصالح الدولة كما يناقشن حدود غزة. أن يفهمن أن التضبيع، أي تحويل الرأي العام العربي إلى قطيع يُقاد بالشعارات، أخطر بكثير من التطبيع ذاته.

هل أخبركم بما هو أخطر من التطبيع؟ أن يُصبح التفكير جريمة، والشك خيانة، والاختلاف زندقة. أن نُربّى على أن "إسرائيل" هي أصل الشرور، بينما الفساد بيننا يتحول إلى قاعدة، والمحسوبية إلى مذهب رسمي. أن نغض الطرف عن مصالح بلادنا ونغرق في نرجسية قومية عقيمة لا تطعم جائعاً ولا تعلّم طفلاً القراءة.

باختصار، إذا خُيّرت بين "تطبيع" يعود بالنفع على بلدي، و"تضبيع" يجعلني أهتف كروبوت دون وعي، فإنني أختار التطبيع... لا حباً في إسرائيل، بل احتراماً لعقلي، وإيماناً بأن هذا البلد يستحق أن يُفكر، لا أن يُلقّن.

0 التعليقات: