الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أبريل 29، 2025

حين تكتب الكتب نفسها وفق نبض العالم: عبده حقي


منذ أن وقعت عيني على أول خبر يتحدث عن مشروع أدبيّ يستجيب للأحداث العالمية لحظة وقوعها، أدركت أنّنا قد دخلنا عصراً لم يعد فيه الكتاب كياناً صامتاً جامداً، بل كائناً حيّاً يتنفس معنا، ويُعيد تشكيل ملامحه وفق ما تجود به الوقائع المتغيرة. ككاتب مغربيّ عايش تحولات السرد الرقمي خلال العقود الأخيرة، أجد نفسي مأخوذاً أمام هذه النقلة النوعية التي تجعل من النص الأدبيّ جسداً ديناميكياً، متحرّكاً، يحرج تصنيفاتنا التقليدية بين "مؤلف" و"نص" و"قارئ".

تقوم فكرة "النصوص الحية" أو "Living Texts" على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي المرتبطة بخوارزميات تحليل الأخبار العالمية، ليتفاعل النص مع الأحداث الكبرى — من انقلابات سياسية وزلازل طبيعية، إلى اكتشافات علمية وجوائح صحية — ويعيد سرد نفسه بطريقة تتلاءم مع المستجدات. في هذا السياق، يبدو النص وكأنه يشبه شجرة على ضفاف نهر متقلب؛ جذورها ثابتة في التربة الأدبية، لكن أغصانها تميل حيث تميل الريح.

في سنة 2023، أطلقت إحدى دور النشر في نيويورك مشروعاً تجريبياً بعنوان "WorldPulse Books"، تقوم فكرته على إصدار روايات تُحدَّث تلقائياً بناءً على تطورات المشهد العالمي، عبر ربط النص بأنظمة الذكاء الاصطناعي مثل GPT وBERT اللذين يمسحان الأخبار على مدار الساعة. ووفق تقرير نشرته مجلة «أطلانتيك» بعنوان “The Books That Won’t Stand Still”، فإن هذه التقنية تهدف إلى إضفاء طابع آنٍ على القراءة، بحيث يشعر القارئ أن الكتاب يواكب انفعالات العالم لا مجرد ماضٍ مجمّد.

إن هذا التحول يعيد إلى ذاكرتي نظرية رولان بارت في مقاله الشهير "موت المؤلف"، حيث دعا إلى اعتبار النص ملكية مفتوحة بيد القارئ. واليوم، مع النصوص الحية، يتجاوز الأمر مجرد تأويل النصوص إلى مشاركتها الفعلية في كتابة مصيرها. لم يعد النص ينتظر تأويل القارئ فحسب، بل يشاركه العيش المشترك في الزمان الحيّ، في استجابة حية ومستمرة.

ولعل هذا التحول يطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة الأدب نفسه: ما الذي يبقى من هوية الكتاب إذا ظل يعيد كتابة نفسه؟ هل يمكننا بعد اليوم الحديث عن "نص ثابت" أم أننا أمام أدب متحرك بقدر حركة الأخبار؟ بل وأكثر من ذلك، ماذا عن مصداقية النص إذا كان عرضة للتحوير اللحظي؟

باعتباري ابن مدرسة أدبية مغربية تتغذى على شموخ الذاكرة وحساسية الهوية، أجدني منقسماً بين الدهشة والخوف. ففي عالم نصوص تعيد صياغة نفسها مع كل حدث، قد يغدو الخيال رهينة الواقع اللحظي، وتُجهض مساحة الحلم التي طالما اعتُبرت جوهر الإبداع المغربي والعالمي. لعل هذه المخاوف تجد لها صدىً في كتاب "ثقافة التلاشي" لجان بودريار، حيث يحذر من مجتمع يستبدل الوقائع بالتمثيلات السطحية، فتختفي الحقيقة خلف مرايا إعلامية متكاثرة.

غير أن الوجه الآخر لهذه التجربة يفتح أفقاً مثيراً؛ فلو أحسن استخدامه، يمكن للنص الحي أن يصبح أداة مقاومة ضد سطوة السرديات الكبرى المفروضة من فوق، وأن يمنح المهمشين أصواتاً تتجدد مع كل منعطف. تخيلوا نصاً روائياً مغربياً يتابع نبض الريف أو صدى احتجاجات الجنوب لحظة بلحظة، ويعيد سرد شخصياته تماهياً مع المسارات الشعبية الحقيقية، كما لو أننا أمام تجربة "رواية قيد الكتابة الدائمة".

من زاوية أخرى، تلقي هذه الظاهرة بظلالها أيضاً على فكرة حقوق النشر والأخلاقيات الأدبية. من يتحمل مسؤولية النص إذا كان يتغير آلياً؟ من يوقع على مضمونه؟ وهل يتحول المؤلف إلى مجرد مشرف بيانات، يراقب النص عن بعد كما يراقب مزارع نمو محصوله عبر تطبيق ذكي؟

إنني، ككاتب مغربي يؤمن بديناميكية الثقافة، لا أرفض فكرة النص الحي بقدر ما أدعو إلى وعي نقدي بهذه المرحلة الجديدة. قد نحتاج إلى ميثاق أدبي جديد، يواكب هذه الطفرة ويؤسس لفلسفة إبداعية تحمي روح الأدب من الذوبان الكلي في آنية الأحداث.

وختاماً، يبدو لي أن مستقبل الأدب سيكون أشبه بشجرة رمّان مغربية تنبت في حقل ذكاء اصطناعي عالمي؛ جذعها قديم صلب، لكن ثمارها تتبدل حسب طعم المطر ونكهة الرياح. علينا أن نحفظ الجذع، مهما تلاعبت الريح بالثمار.

0 التعليقات: